النموذج الدنماركي لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب
في ندوة عالمية عقدتها منظمة العفو الدولية في العاصمة اليونانية اثينا في العام 1978 تحت عنوان “انتهاكات حقوق الإنسان.. التعذيب ومهنة الطب” ناقشت مجموعة من المهنيين و الخبراء في الرعاية الصحية، وفي مقدمتهم أطباء وممرضين و ممرضات و اخصائيين، المظاهر المختلفة لهذه المسألة، واسفرت الندوة عن تأسيس مجموعة عمل دولية مهمتها اقتراح افضل السبل الناجعة لإعادة تأهيل الناجين من التعذيب . وفي العاصمة الدنماركية كوبنهاجن، عقدت ندوة متابعة في كانون الأول/ ديسمبر 1979 وفي هذه الندوة استعرض المشاركون الكثير من الخبرات والوسائل الكفيلة بإعادة التأهيل لناجين من معسكرات الاعتقال التعسفي وبحارة من قوافل الحرب العالمية الثانية، ورهائن وناجين من جحيم التعذيب .
وانتهت الندوة إلى التوصية بإقامة مركز طبي للمعالجة الخاصة في كوبنهاجن، بشأن إعادة التأهيل للناجين من التعذيب .ولأن إقامة مثل هذا المركز هو من خارج مهمات منظمة العفو الدولية، فقد اقترحت الأخيرة أن يقوم الأعضاء الدنماركيون في المجموعة الطبية بالعمل على تنفيذ هذه المهمة، وفي الوقت نفسه، أعلن أنه يجب معالجة ضحايا التعذيب في بلدانهم الأصلية على الرغم من استحالة هذه الشروط في حالات كثيرة، وكان الناجون من التعذيب في المنافي القسرية يشكلون جزءا كبيرا من المبعدين و اللاجئين على مستوى القارة الاوروبية، ولذلك أعلن عن أن اللاجئين الراحلين إلى الدنمارك لهم الحق في أفضل ما يمكن من مساعدة طبية وعلاجات مجانية تفتح لهم من جديد طريق الأمل والسعادة .
في العام 1980 حصلت المجموعة الطبية الدنماركية على إذن بإدخال ومعالجة ضحايا التعذيب وتوفير جميع الشروط والظروف المتعلقة بعلاج الناجين من التعذيب و توفير العناية اللازمة لهم ولعائلاتهم . وكان من بين أمور أخرى تعلمها الممرضون والممرضات في الدنمارك كيفية استجابة الناجين من التعذيب بقلق لمرورهم بالفحوصات والمشاهد الشاملة التي تستعيد ذكريات مراحل التعذيب، والقسوة الصارمة، التي عايشوها داخل السجون، وفي مراكز التحقيق، وكان المبدء الرئيسي المحدد للعلاج في هذه المرحلة المبكرة هو تجنب كل ما من شانه أن يسبب الخوف و القلق لجميع المرضى .
وبعد العمل لمدة عامين تقريبا على هذا المنوال، تأسست اللجنة الأولى ل” المركز الدولي للابحاث وإعادة تأهيل ضحايا التعذيب” في كوبنهاجن، وافتتح المركز أبوابه في 5 آيار/ مايو 1984 وهو يوم ذكرى تحرير الدنمارك من براثن الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية .
وعتدما بداء مركز الابحاث وإعادة تأهيل ضحايا التعذيب باستقبال الأشخاص الناجين من التعذيب لمعالجتهم وتقديم الرعاية لهم وضعت الأسس والمبادئ الأكثر أهمية مهنية للعلاج استنادا إلى الخبرات والتجارب العملية السابقة .
ويعتبر “مركز الابحاث وتأهيل ضحايا التعذيب” عبارة عن منظمة أو مؤسسة مستقلة، ويأتي نصف دخل هذا المركز من قبل الحكومة الدنماركية، والنصف الآخر من صناديق وطنية ودولية ومن الأفراد و التبرعات، وكان من الضروري بالنسبة لضحايا التعذيب، أن يكون المركز جهة غير مسيسة، ومستقل بالكامل عن سياسات السلطة الدنماركية، أو غيرها من الجهات الدولية . ويؤمن هذا المركز تجنب البيئة المؤسساتية، والحرص على خلق أجواء ودية ولطيفة لجميع رواده من ضحايا التعذيب .
وعلى امتداد تلك الفترة الزمنية الطويلة، ساهم المركز في نشر الوعي الصحي والرعاية الصحية المطلوبة للمرضى، وتقديم العلاج للعديد من اللاجئين في الدنمارك من ضحايا التعذيب، من بلدان واقطار مختلفة حول العالم، الذين تعرضوا لمختلف صنوف الظلم و العسف العام، و الملاحقات والمطاردات و المعتقلات و السجون و التعذيب والنفي القسري، على أيادي حكامهم الطغاة والفاسدين والمستبدين، وقد استفادت غالبيتهم من علاجات المركز وعاشوا بعدها حياة طبيعية ومستقرة في المجتمع .
وتعتبر المهمة المركزية الأولى لهذا المركز، هي إعادة تأهيل ضحايا التعذيب وعائلاتهم، والبحث عن آثار التعذيب، والقلق النفسي، والخوف من المستقبل، و تعليم العاملين في الرعاية الصحية محليا وعلى المستوى الدولي، كيفية معالجة الناجين من التعذيب، ومنحهم فرصة استعادة الثقة في اوضاعهم الصحية، وتحررهم من الخوف والقلق من المستقبل، وتخصيص المزيد من الأموال و الجهود والتجارب والاختبارات لتطوير العمل المهني والخدمي والانساني والاخلاقي في نطاق هذا المركز، وتعزيز مستويات مشاريعه و برامجه و تطلعه لخدمة هذه القضية الإنسانية .
هاني الريس
3 سبتمبر 2024