كيف قمعت قوات الانتداب البريطاني في البحرين الانتفاضة العمالية والطلابية المطالبة الحريات في (1965)
عندما إشتد وطيس التظاهرات الاحتجاجية المطلبية في عموم البحرين بعد قرار شركة نفط البحرين المحدودة (بابكو) تسريح قرابة 500 عامل من العمال البحرينيين، من وظائفهم في الشركة واستبدالهم بعمال اجانب من العمالة الرخيصة، شهدت ساحات ومناطق العاصمة البحرينية المنامة، التي كانت بمثابة حاضنة التحرك المطلبي العمالي، وبخاصة منطقة القضيبية، حيث يقع حرم المدرسة الثانوية للبنين، والقسم التجاري فيها، التي ظلت تتجمهر في فنائها الداخلي، قوافل و مجاميع حاشدة من الطلاب والعمال بشكل يومي رافعين شعارات التنديد بالممارسات المجحفة واللا انسانية المتخذة ضد العمال في شركة نفط البحرين المحدودة (بابكو) والمطالبة بضرورة عودة جميع العمال المسرحين إلى أعمالهم، واطلاق سراح المواطنيين الموقوفين على ذمة التحقيق في مراكز الشرطة البحرينية، على خلفية هذه الانتفاضة، و رحيل قوات الحماية البريطانية من قواعدها في البحرين. تطورت بيني وبين بعض الاصدقاء المقربين، فكرة الذهاب الى المنامة من أجل المشاركة في تلك التظاهرات، التي جمعت مختلف أطياف وفئات وشرائح المجتمع البحريني. ولكن للاسف الشديد لم يستجيب أحدا من هؤلاء إلى تلك الفكرة، أما بسبب الخوف أو لعدم الاكتراث الجدي لمثل هذه الامور الوطنية الكبيرة، وعندها فكرت بقرار فردي بأن اذهب بنفسي إلى هناك حيث كانت تتمركز التظاهرات الطلابية والعمالية في حرم المدرسة الثانوية ومحيطها للمشاركة معهم في همومهم معاناتهم القاسية .
إستقليت إحدى حافلات الركاب (الباصات) المتوجهة نحو العاصمة المنامة، وعندما وصلت إلى هناك رأيت في ساحات وشوارع تلك المدينة الوادعة، تختنق بطوفان من الطلبة والعمال والنساء والشباب والاطفال، وما لاتصدقه العين المجردة، يزحفون زرافات نحو مواقع الحشود والتجمهرات الكبيرة، حيث كانت أوضاع الامن والاستقرار صعبة للغاية، وكان الناس يتخفون خلسة في طرقاتها وشوارعها الخلفية، ثم يلوذون بالفرار بانفسهم و بأرواحهم وأجسادهم بعد ذلك وفي مختلف الاتجاهات خوفا من المداهمات و الملاحقات وبطش قوات الامن بالابرياء، التي كانت ترصد جميع حركاتهم وسكناتهم خلال تلك المسيرات. وبصعوبة بالغة إستطعت الوصول إلى جوار حرم المدرسة الثانوية في القضيبية. رأيت هناك ما لا يصدقه العقل من أهوال الردع والقمع وحملات الاعتقال التعسفي العشوائي، التي كانت تمارسة قوات الأمن البريطانية ضد الجماهير المحتشدة في داخل حرم المدرسة الثانوية وفي محيطها.
سلسلة طويلة من السيارات العسكرية (الاجياب) المسلحة، محملة بالجنود والعتاد الحربي، تجوب ساحات وشوارع المنامة العاصمة، وتلاحق المشاركين في التظاهرات، وتحاول التصدي لهم للحيلولة من دون وصولهم واقترابهم من البوابة الرئيسية للمدرسة الثانونية، عبر استخدام مختلف وسائل القوة المفرطة، وذلك من خلال رشقهم بخراطيم المياه الساخنة، ووابل من الغازات المسيلة للدموع، فيما كانت فرقة الخيالة المجنونة التابعة لوزارة الداخلية البحرينية، تدهس أجساد المتظاهرين العزل في داخل حرم المدرسة ، من دون هوادة او أي رادع يردع. حيث سقط من خلال عمليات الدهس العشوائي، واطلاق الرصاصات الحية و الطائشة في ساحة المدرسة الثانوية، وفي مختلف مناطق الاحتجاجات في البحرين، ستة شهداء أبرار وهم:”عبدالنبي محمد سرحان، وعبدالله مرهون سرحان، وعبدالله نجم بونودة، وجاسم خليل الصفار، وعبدالله سعيد الغانم، وفيصل عبدالله القصاب، بالاضافة إلى عشرات المصابين بجروح مختلفة وكان بعضها خطيرا جدا، وقد نجا بأعجوبة من موت محقق بفعل هجمة مباغتة من جانب فرقة الخيالة، التي أخذت تدهس بصورة عشوائية أجساد الناس، أحد المتظاهرين العزل، وهو (نصر عبدالله معيوف) التي ظلت تدك جوارحه الخيل في فناء المدرسة الثانوية، وذلك من دون أن يستطيع أحد الاقتراب منه. وبالاضافة إلى كل هؤلاء الشهداء والمصابين، كانت هناك أعداد هائلة من المعتقلين الابرياء الذين دفعت بهم دفعا قوات الامن إلى المعتقلات والسجون البحرينية الرهيبة، وقد مورست ضدهم هناك مختلف صنوف التعذيب النفسي والجسدي العنيف و الوحشي .
ورغم استخدام مختلف وسائل القوة المفرطة والمبالغ فيها بشكل مؤسف، التي أمعن في تنفيذها الجنود المسلحون من قوات الشرطة البريطانية والبحرينية وبعض المرتزقة الأجانب على حد سوا، ضد المتظاهرين العزل، الا ان أحدا من المتظاهرين لم يستسلم ولم ينكسر، ولم يتقهقر، حيث ان الجميع كانوا يقفون في خندق واحد، و في كتلة واحدة موحدة ضد ممارسة السلطة الظالمة وقراراتها وإجراءاتها الهمجية المرفوضة. رأيت الجميع يتحدون كل هؤلاء الجنود ويتصدون لبنادقهم وقنابلهم الحارقة وخيولهم الهائجة، بأجساد عارية وينشدون الاناشيد الوطنية ويرفعون الشعارات المطالبة بعودة العمال المسرحين ومحاسبة المسؤولين عن قمع وقتل المتظاهرين المسالمين، وتأسيس النقابات العمالية، والاتحادات الطلابية المستقلة، وسيادة واستقلال البحرين وجلاء قوات الحماية البريطانية وضباطها وخبرائها ومستشاريها ومرتزقتها في البحرين. رفع المتظاهرون على أكتافهم عدد من طلاب المدرسة الثانوية، الذين كانوا يرفعون شعارات متعددة في التظاهرة، عرف من بينهم الطالب عيسى الوطني، وهو من أبناء منطقة النعيم، و الذي ظل يهتف بشعار (يسقط … يسقط الاستعمار) وكذلك الطالب بدر عبدالملك، وهو من أبناء منطقة الحورة، والذي كان يهتف بشعار(الهملة … الهملة منا مطلوبة) والهملة هي قريه صغيرة وادعة، تقع ضمن قرى (الشريط الشمالي) للبحرين، وظلت هذه المنطقة على إمتداد عقود من الزمن، تمثل (رمز القوة العسكرية الضاربة) لقواعد سلاح قوات المشاة البريطانية، أبان سنوات حقبة الانتداب البريطاني للبحرين، أو ما سمي بعهد (الحماية البريطانية) وهي اليوم تمثل المركز العسكري والاداري الرئيسي لقوة دفاع البحرين.
في خضم تلك المواجهة الضارية، بين قوات الامن المدججة بمختلف الاسلحة الخفيفة والتقليدية، وجماهير الشعب المتململة والغاضبة والمدافعة بشراسة عن الحريات الديمقراطية العامة وحقوق المواطنة المشروعة، كان هناك للاسف الشديد ضابط بحريني من فريق المخارقة في العاصمة المنامة، يدعى أحمد الخلو، كان يقود شرذمة من الجنود المتعطشين لسفك الدماء، ويتفرج ويشرف بنفسه على سيل المجازر الدامية والمؤلمة، التي كانت ترتكبها قوات الامن البريطانية والبحرينية على حد سواء، بحق الابرياء من المتظاهرين العزل، ويدعو جنوده بإحكام الطوق الامني المفروض على المدرسة الثانوية، وذلك للحيلولة من دون خروج الطلاب للالتحام بصفوف التظاهرات العارمة، التي كانت تجوب شوارع وساحات العاصمة المنامة، وقيل بأنه الشخص، الذي حاول أن يطلق النار بنفسه على بعض المتظاهرين العزل، ويصيب أحدهم في مقتل. وبعد بضع سنوات قليلة من قمع تلك التظاهرة الطلابية المعتدلة والمسالمة، أصيب الضابط أحمد الخلو، بمرض الكآبة وإنفصام الشخصية، ومن ثم الجنون الحقيقي، الذي عانى منه فترة زمنية طويلة، ولاسباب تبدو متعلقة بظروف الرجل الصحية، تطلقت منه زوجته بدرية، التي عملت (معنا) بعد ذلك كموظفة في المكتبة العامة في المنامة التابعة لوزارة التربية والتعليم، حتى مات ودفن في مسقط رأسه في المنامة، من دون أن يغفر له أحد أو يترحم عليه، من ذوي القتلي والمصابين والمعاقين في تلك الاحداث، الذين أكتوت قلوبهم وافئدتهم بفقدان فلذات أكبادهم في طرفة عين.
في مقابل هؤلاء الضباط البحرينيين، الذين لوثوا أياديهم بدماء الشهداء و المناضلين الاحرار، كان هناك من المواطنين الشرفاء من أفراد الشرطة البحرينية، من ظل يرفض تنفيذ أوامر الضباط البريطانيين والبحرينيين، باستخدام القوة المفرطة واطلاق النار على المتظاهرين العزل، وكما تبين أن بعضهم قد قدم استقالته من سلك الشرطة، وكان من أبرز الرافضين لاوامراطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، الشرطي مبارك لحدان صالح، والذي كان قد دفع ثمن رفضه لأوامر الضباط البريطانيين باطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في (حي المخارقة) بالمنامة، دفع هذا الرجل الشهم، ثمنا باهضا للغاية حيث أنه بعد ذلك، مثل أمام محكمة عسكرية، وحكم عليه بالسجن، وتم فصله من عمله في جهاز الشرطة، وصدر قرار بمنعه من العمل في جميع الوظائف الحكومية، وقيل أنه هاجر من البحرين إلى خارج البلاد، بعد أن ضاقت به سبل العيش الكريم في الوطن، هاجر إلى المنافي القسرية، شامخا صابرا ومرفوع الرأس.
كنت وقت اندلاع تلك الاحداث، شابا يانعا في مرحلة الصبا، وكنت شاهدا على كافة المآسي الرهيبة، التي حدثت في تلك الأيام الخطيرة و الصعبة، والتي تضررت منها فئات وشرائح إجتماعية كبيرة من شعب البحرين، إلا أنني كنت أستوعب كل ماكان يدور من حولي من مشاهد بوليسية مؤلمة وحزينة، تقشعر لها الابدان، وأشعر دائما بأن لي صلة إنسانية وأخلاقية بكل هؤلاء الذين يخرجون إلى الشارع في التظاهرات دفاعا عن حقوق الفقراء والمسحوقين والعمال. و كنت أشاركهم متاعبهم و معاناتهم الروحية والانسانية، وأردد معهم الشعارات والاناشيد الوطنية الحماسية الثورية، وقد شاهدت خلال هذه التظاهرات الكثيرين ممن هم في هذا السن المبكر، يقفون وقفات شموخ في وجه أدوات التعسف والقمع رافعين شعارات (النصر أو الشهادة) وهذا من طبيعة الامور المألوفة في كل مراحل الزمن، أن نجد في أي تجمهر عادي أو مسيرة إحتجاجية مؤدلجة أو حراك إحتجاجي شعبي عام، هناك حشود واسعة من فئات الشباب والاطفال والرجال والنساء، يشاركون بوعي حققيقي، أو بصورة عفوية، في مثل تلك الاحداث والمناسبات الوطنية العظيمة وذات الطابع المطلبي، ويقدمون أرواحهم قرابين من أجل الشعب والوطن، حيث استشهد منهم الكثيرين، من خلال اطلاق الرصاص الحي في التظاهرات الاحتجاجية السلمية، وتحت وطأة التعذيب في المعتقلات والسجون، والتعرض إلى الاعتقال التعسفي والنفي القسري، إلى مختلف العواصم العربية والعالمية .
هاني الريس
26 سبتمبر 2023