هل يوجد “فساد” في البيت الملكي الدنماركي ؟
هناك الكثير من الناس مازالوا يتصورون بأن جميع البيوت الملكية في بلدان المنظومة الاسكندنافية، متشابهة بشكل واسع في سياساتها نحو احترام التقاليد وموروث الماضي والمساواة في جميع الحقوق والواجبات مع المجتمع، وانها أكثر الممالك العالمية حماية لجميع الحقوق السياسية والمدنية الشاملة والقيم وتحصين القانون والنظام والاستقامة المالية ، إلا أن الامر بالنسبة للبيت الملكي الدنماركي العريق، فانه يظهر بوجه آخر مختلف عن باقي نظرائه في المنظومة .
مفارقات في الصورة النمطية
لم تظهر البيوت الملكية السويدية والنرويجية، على امتداد عقود مضت، أية طموحات راسخة مرتبطة على نحو واسع بالفساد، أو عدم الرغبة في المساواة مع المجتمع، والميول نحو مغريات الحياة الباذخة والفارهة، وتقبل الرشى والهدايا الثمينة المقدمة من الشركات ورجال الاعمال وأباطرة المال والاثرياء الذين يقومون بتقديم التبرعات ويسعون لتأسيس الصلات المالية الوافرة، أو تقديم الهدايا الثمينة جدا للملوك والامراء، وذلك لتوطيد صلات التقرب في أوساطهم بهدف مضاعفة الشهرة، أو من أجل الطموح في تسلق المناصب الرسمية أو الادارية الكبرى في نطاق الدولة، ولكن البيت الملكي الدنماركي هو الوحيد من بين البيوت الملكية الاسكندنافية الذي ظل ولايزال يبتعد عن الالتزام بتطبيق هذه القاعدة، ويتقبل برحابة صدر وبحكم القانون مثل تلك الهدايا الباهضة الثمن المهداة من الآخرين، حيث ان الكثيرون من أفراد البيت الملكي الدنماركي، يتفاخرون بممارسة تلك الاشياء ومن دون أي حرج أو تردد، وانهم بالاضافة لذلك ينظمون لانفسهم رحلات السفر ورحلات الصيد في الغابات الجميلة الشاسعة في البلاد ويقتنون أحدث أدوات التكنولوجيا المستوردة من الخارج والحقائب والملابس الفاخرة، ويركبون السيارات العصرية المميزة والفارهة، ويسكنون في القصور المشيدة، والجزر الصغيرة المترامية الأطراف في البلاد .
في كل من السويد والنرويج، خلال العصور الزمنية الغابرة، ظل أفراد في صفوف الاسر المالكة يمارسون عادة تقبل الصلات المالية والهدايا الثمينة من الآخرين، ولكن هذا الوضع قد تغير بشكل جوهري وحقيقي وبواقع جديد في سنوات الحقب اللاحقة تمشيا مع التغيرات والتطورات العالمية الجديدة المواكبة للعصر، وبحسب ما يرونه في معتقداتهم الروحية والاخلاقية، بأن العادات القديمة البالية التي عفا عليها الزمن، لايمكن لها بأي حال من الأحوال، أن تمثل الثقافة الصحيحة والمبدئية والاخلاقية والمتساوية مع الآخرين في المجتمع .
منذ عدة عقود من الوقت ظلت تنهال على افراد البيت الملكي الدنماركي العديد من التبرعات والهدايا الثمينة من الاثرياء الدنماركيين ورجال الاعمال الأباطرة وورثة السلالات التجارية السابقين، الذين ظلوا يسعون في وجهات السباق نحو تقديم أفخر أنواع الهدايا الثمينة للملكة مارجريت الثانية ملكة الدنمارك، وعدد من أفراد عائلتها، وذلك من أجل غايات معنوية ومظاهر دنيوية تعتري في نفوسهم وعقولهم، ويحصلون في مقابل ذلك على أوسمة شرفية والقاب مرموقة من الملكة، وعلى الرغم من ذلك فانه لم يستطيع أحدا من الاحزاب السياسية والحكومة الوطنية، أوالبرلمان الدنماركي، التصدي لمثل هذه الظواهر المنحرفة والفاسدة، حيث توجد هناك نصوص وبنود عريقة ومكرسة في الدستور الدنماركي تتصدى لجميع محاولاتهم نحو امكانية مكاشفة أو محاسبة أو معاقبة للملكة، أو أحدا من أفراد سلالتها، على ممارساتهم لهذا السلوك .
في السويد والنرويج، عوضا عن البرلمانات الوطنية، يمكن لجميع المواطنين العاديين، وبكل سهولة معرفة ما إذا كان أعضاء العائلة المالكة قد تلقوا أية هدايا من أشخاص، أو تجار، أو ملوك أو رؤساء دول، وهناك توجد بالضرورة قواعد للمكاشفة والمسائلة، وقواعد ثابتة تتعلق بإعادة الهدايا للاشخاص التجاريين والاثرياء، ولكن الحال يختلف جوهريا بالنسبة للدنمارك، التي لم تعد واحدة من بين أنظف وأكثر الدول العالمية شفافية ـ بحسب ـ منظمة الشفافية الدولية، وعلى هذا الاساس ظلت الحكومات الدنماركية المتعاقبة تتعرض للكثير من الانتقادات والاعتراضات على المستويين الوطني والدولي، بسبب عدم مكافحتها للفساد بشكل واضح وصحيح .
في السويد والنرويج، تتجنب البيوت الملكية، تقبل أية هدايا خاصة سواء كانت معنوية رمزية أو باهضة الثمن، من أية جهة كانت تجارية أو غير تجارية، وذلك تجنبا لاقامة أية روابط وثيقة للغاية مع المتبرعين بتلك الهدايا، أو منحهم أية القاب أوسمة، أو حصولهم على مواقع رسمية أو ادارية كبيرة في نطاق الدولة، وتسعى لأن تؤسس لقواعد تكون أكثر صرامة في قضايا الشفافية، والعمل على ادخال ممارسات جديدة تحول من بين تجانسها مع الطامحين في الوصول إلى غايات واهداف معينة ترتبط معها مصلحيا، وتحاول دائما أن تعمل على خلق مسافة واحدة متقاربة مع جميع المواطنين العاديين في المجتمع .
انتقادات منظمة الشفافية الدولية
منظمة الشفافية الدولية، التي تتقصى الحقائق حول الفساد في العالم، ظلت على الدوام تنتقد وبشدة الفساد المرتبط باستمرار قبول الملكة مارجريت الثانية وأفراد البيت الملكي في الدنمارك، تلقي الهدايا الثمينة والمميزة، من دون أية ضوابط اجرائية. ولكن في القانون الجنائي وكذلك أيضا القانون الدستوري لمملكة الدنمارك، لا يمكن بحال من الاحوال مكاشفة أو مسائلة أو محاسبة العائلة المالكة الدنماركية في قضايا عديدة حتى لو كانت خطيرة للغاية، وذلك بسبب ما يعتبر بالمكانة الخاصة والقدسية المميزة للملك/ الملكة، وأعضاء العائلة الملكية .
ووفقا لنظام منظمة الشفافية العالمية، التي تأسست أصلا لمراقبة الفساد ومكافحته حول العالم، أن الرشوة هي الفعل الذي يربطه معظم الناس بالمكاسب غير المشروعة، وبالفساد بشكل طبيعي، وتسمى بالرشوة النشطة عندما تقدم رشوة، أو تعرضها، أو تعد بها، وتسمى الرشوة السلبية عندما تطلب مثل هذه المدفوعات أو تقبل بها وتوافق عليها، وهي في النهاية تعتبر رشوة بصرف النظر عما إذا كان الدفع يأخد بشكل نقود، أو هدايا، أو سفر، أو مزايا اخرى تعود بالنفع الشخصي على المتلقي، أو أحد أقاربه .
تمييز طبقي :
وباستثناء الملك، أو الملكة، أو افراد البيت الملكي الدنماركي، يعاقب القانون الوطني الدنماركي، على جميع أنواع الرشى والرشوة النشطة، الاشخاص العاملين في الخدمة العامة، أوفي المناصب الوطنية الرسمية، أو فوق الوطنية، مثل الموظفين في نطاق الاتحاد الاوروبي، أو منظمات الامم المتحدة، وفقا لاحكام “المادة 122” من القانون الجنائي الدنماركي، ويتعرض الاشخاص المرتشين لعقوبة السجن لمدة 6 سنوات، أو بالغرامة المالية، والمعاقبة بارتكاب الرشوة وفقا لاحكام “المادة 144” تصل أيضا إلى 6 سنوات سجن، أو دفع غرامة مالية .
وعلى الرغم من أن مملكة الدنمارك، كانت قد وقعت على العديد من اتفاقيات ومعاهدات وبروتكولات الامم المتحدة، التي تلزمها بمحاربة قضايا الفساد والرشوة، فانها لا تزال تماطل في تطبيقها على أرض الواقع، والسبب ـ بحسب ـ العديد من الخبراء وفقهاء القانون الدستوري الدنماركي، يعود إلى عدم وجود نصوص أو بنود دستورية واضحة تمنع أفراد البيت الملكي الدنماركي من تلقي الهدايا مهما تكن رمزيتها أو قيمتها المالية، حيث تنص “المادة 13” في الدستور الدنماركي، على أن الملك أو الملكة معفيين من المسؤولية القانونية والدستورية، بحكم كونهم “أشخاص مسالمين ومقدسين في نفس الوقت”، كما انه ايضا لا يوجد أي بند أو نص قانوني في الدستور الدنماركي، أن يمنع فردا واحدا من أفراد الاسرة المالكة، من الاستمرار في تلقي الهدايا، وبحسب فقها القانون الدنماركي، فأن أي تغيير جوهري في هذا الشأن، يتطلب بالضرورة تعديل دستوري وموافقة جماعية أو باغلبية كبيرة من أحزاب البرلمان الوطني الدنماركي .
ويضيف فقهاء القانون الدستوري في الدنمارك، أن الاشخاص الذين يعملون في الخدمة العامة ويتلقون هدايا أو مزايا أخرى، فانهم يواجهون عقوبة القانون، وهذا هو الحال المألوف والمتبع في غالبية بلدان العالم، ولكن في الدنمارك لا يتساوى الجميع أمام القانون، حيث تطبق أحكام القانون وبشكل شديد الصرامة على عامة الناس داخل المجتمع، في نفس الوقت الذي لم يتعرض فيه أي فرد من أفراد الاسرة الملكية الدنماركية، إلى أي شكل من أشكال المكاشفة أوالمسائلة أو تلقي أية عقوبة مالية، أو رحلة عقابية خلف القضبان. ويشيرون أيضا إلى أنهم لا يتوقعون على الاطلاق، أن يحدث تغيير جوهري في نصوص القوانين والدستور، على الاقل في الوقت الراهن، سواء عن طريق العائلة المالكة، التي مازالت تتمسك بتلابيب موروث الماضي التقليدي، أو بالنسبة للبرلمان الدنماركي المنقسم على نفسه بخصوص النصوص المعقدة المكرسة في الدستور، أو ما يحدث في نطاق الاسرة المالكة، ويرون بأن هذه المسألة الجوهرية والمعقدة، سوف تترك لحين تقرر مصيرها الاجيال الجديدة اللاحقة في الدنمارك .
هاني الريس
7 حزيران/ يونيو 2023