أوراق “من التأريخ” انطباعات حول زيارة استطلاعية للبحرين (4)
هل يمكن أن تتغير الامور في البحرين في ظل التراجع الشديد لسقوف ما سمي “بمشروع الاصلاح” وفرض القبضة الطاغية على جميع مفاصل الدولة والمجتمع ؟
هذا السؤال ظل يتردد في أوساط المواطنين البحرينيين على مختلف مستوياتهم ومشاربهم وانتماءاتهم السياسية والدينية، بعد أن سارت الرياح بما لا تشتهي السفن في غمار بحر الميثاق ومشروع الاصلاح، فما كان واضحا كوضوح الشمس في تلك الحقبة هو أن كل يوم وفي كل مكان في عموم البلاد، تشير الامور إلى انسداد آفاق اللقاء والحوار المسؤول بين السلطة والمعارضة، حيث أن السلطة أخذت تراوغ وتناور في تبني قضايا الاصلاحات الحقيقية والجوهرية على محمل الجد، بعد أن كانت قد وعدت وتعهدت ببدل الجهود والامكانيات لتحقيقها وتكريسها وتعزيزها على أرض الواقع في سياق ميثاق العمل الوطني ومشروع الاصلاح، وبدلا من ذلك مارست السلطة سياسة ملتوية وخبيثة من حيث أنها تستطيع أن تفرض كافة مشاريعها الملتوية والمكشوفة، من خلال وسائل الكر والفر والمماطلة في تحقيق الوعود الجوهرية المطروحة والمطلوبة. وأخذت تتكرر الاسئلة، إلى متى يمكن أن تستمر هذه الاوضاع المشوشة والغامضة في ظل الكوابيس التي تتضاعف بشدة نحو المستقبل المجهول للبلاد، واستمرار تفرد السلطة والحكم بجميع خيوط اللعبة السياسية والتحكم بها بعيدا عن مشاورة الرأي العام، وعن أنظار الجمعيات السياسية المعارضة ؟ لا أحد يجزم قطعيا أو يتنبأ بما قد تؤول إليه الشهور أو السنوات القادمة .
ولكن تبقى الحقيقة الواضحة، هي أن الاوضاع في البلاد، تعكس حالة عامة لدى المجتمع مفادها أن أحدا لا يمكن أن يقبل بكل ما يمارس من أخطاء فاضحة على مستوى الحكومة والحكم، والتفرد بعمليات صنع القرار بعيدا عن مشاورة ومشاركة الرأي العام البحريني والجمعيات السياسية التي تمثله، وكانت جميع الدلائل الدامغة كلها تشير إلى تعقيدات الوضع وانسداد آفاق التفاهم والحوار الجاد والمسؤول بين السلطة والمجتمع .
الحالة السياسية الراهنة في البحرين، يمكن وصفها باختصار شديد انها معقدة ومستعصية على المعالجة والحل لجميع الاوضاع المهترية والصعبة واستقرار الامن والاستقرار، وانه لا يوجد هناك اي يقين بان الاعتبارات الواقعية والعقلانية سوف ترسم الاحداث في البلاد مستقبلا، وتقود إلى المصالحة الوطنية الكاملة والشاملة، بعدما صور الحكم لنفسه انه قوي ويستطيع التفرد بنفسه بصنع القرار، ويماطل ويجادل بشأن الجلوس على طاولة حوار وطني مسؤول مع المعارضة، وكذلك المداورة والمراوحة في جدية الانفتاح الواسع على المجتمع، فيما ظلت هذه الوضعية السالبة والمؤسفة تمثل امتداد لحقبة أمنية صارمة كانت ملطخة بالدماء وبمختلف اساليب البطش والعسف العام ضد الغالبية الساحقة في المجتمع، والتي كان يشار إليها على أنها هي بالفعل حقبة سيئة ومدمرة في تاريخ البحرين، مع وجود فارق بسيط ومحدود وهو التخفيف من صرامة ووحشية ممارسة القمع السياسي وتنظيف السجون لاسباب تتعلق بالحريات المدنية العامة، حيث قد انحسر وبصورة تدريجية زمن القمع المقنن وخنق الحريات والاعتقالات العشوائية خارج اطار القانون، ولكن على العكس من ذلك بدأت تظهر هناك ملامح مرحلة جديدة مغايرة وتعتمد اليوم على استلاب الارادة الشعبية بواسطة الخداع والمكر، وليس باستخدام ادوات القمع والعسف العام، التي كانت سائدة طوال العقود المنصرمة، أي التحول الملفت من استخدام أساليب الضرب بالسوط والكرباج، إلى استخدام الحيل الماكرة والمداهنات والكلام المعسول من أجل تهدئة هيجان الشارع البحريني، واستخدام نصوص وبنود دستور المنحة الجديد للعام 2002 والمراسيم الملكية التي قدمت نفسها كبديل عن الدستور التعاقدي للعام 1973 وانابت عن تفكير الشعب وحريته في اختيار نظامه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وجميع انظمته الداخلية وتوجهاته في مجال السياسة الخارجية، كوسيلة من وسائل القمع المقنن وغير المكشوف، ومن ثم سيكون في استطاعتها استخدامه كذريعة قانونية ودستورية لمواجهة كافة الانتقادات والاعتراضات المحلية والدولية على تفردها بجميع أدوات صنع قرارات الدولة والمجتمع، وسحق آراء وأصوات الارادة الشعبية .
وكان من المستحيل تماما هنا في ظل دستور تمت صياغته بحرفية وعناية شديدة من جانب واحد، وإرادة واحدة بعيدا عن مشاركة الشعب، وقد اراد من خلاله حاكم البلاد الجديد، حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة، أن يكون بمثابة شعار حق يراد من ورائه باطل، وأن تكون بواسطته البحرين مملكة ديمقراطية دستورية، يقتدى الآخرون بنظامها وبتجربتها الدستورية، وذلك بحسب ما كانت تتطلع له مؤسسة السلطة والحكم وتروج له جميع الابواق المأجورة في داخل البلاد وخارجها .
لذا فانه من المؤكد والحال هكذا أن تبرز إلى العيان كافة العيوب المبطنة والمخفية، وتبدأ بعدها سلسلة الازمات والقلاقل الصارمة والمشاكل، وتستمر خلفها احتجاجات واعتراضات القوى السياسية والاجتماعية على ممارسة هذه السياسة العقيمة، وإلى أن يتمكن الجميع من القبول بصيغة مريحة ترضي التطلعات في مجتمع ديمقراطي دستوري وتعددي ويتساوى فيه جميع أفراد المجتمع بكافة الحقوق والواجبات .
في ظل أوضاع مرتبكة ومعقد كهذه، كانت تلوح في الافق بعض الفرص السانحة لجميع القوى السياسية والشعبية لمراجعة الذات وإعادة بناء نفسها من جديد على مرتكزات صحيحة وقوية وراسخة لمواجهة كافة التحديات الكبيرة التي مورست من قبل السلطة والحكم بدلا من المراوحة والمداورة والانتظار الطويل الذي يمكن أن يكرس تطبيع واستقامة الاوضاع التي قامت جميعها على شعارات لا تخدم أبدا المصالح الحيوية للمجتمع، وعلى مرتكزات وقواعد صلبة تصب جميعها في خدمة النظام السياسي .
عدم الاعتراف بالآخر
بالنسبة لوضع الجمعيات السياسية وادوارها في اللعبة السياسية الحالية، وهي التي يفترض بانها تمثل فعاليات وشرائح مجتمعية وعقائدية متنوعة ومتعددة، فانها مازالت تنظر اليها السلطة البحرينية، بعيون الريبة والشك وعدم المبالاة والاهتمام، ولا يسعها أن تطلق لها العنان لما يمكن ان تقدمه من أعمال وتطلعات تخدم القضايا الوطنية العامة، وانها مازالت تنظر اليها على اعتبار انها ” جمعيات نفع عام ” ويحظر عليها الدخول والمشاركة في أي معترك سياسي جدي، سواء بالنسبة لطروحاتها واعلاناتها الانتخابية أو الثقافية أو أعمال وأنشطة التوعية داخل المجتمع، وبحسب التصريحات الاخيرة لوزير شؤون مجلس الوزاء البحريني محمد بن جاسم المطوع، عبر الصحافة المحلية، قال:” أن الجمعيات السياسية الخاضعة لقانون جمعيات النفع العام، ستبقى خارج الاطر والبرامج الانتخابية للبرلمان القادم، وهذا يعني عدم تمكينها من أعلان لوائح أو تقديم مرشحين، أو دعم الاشخاص المرشحين باسمائها وبشعاراتها الانتخابية، ومن المشكوك فيه جدا أن تتراجع السلطة عن تحقيق هذا الهدف قبل أن يحدث تغيير جوهري في نصوص ومواد قانون الجمعيات يتيح للجمعيات السياسية المشاركة في الانتخابات بشكل صريح وحرية تامة، ومن المشكوك فيه ايضا أن تضاف مادة جديدة في دستور المنحة الملكية، تسمح بالتعددية الحزبية وتداول السلطة، ما قد يعني أن عمل وأنشطة الجمعيات السياسية الخاضعة لقانون الجمعيات، يقتصر فقط على ممارسة الاغراض الاجتماعية والثقافية والفكرية التي تمارس في نطاق جمعيات النفع العام البحرينية، وليس مرتبطا بشكل مطلق على طبيعة ممارسة العمل والنشاط السياسي الحزبي، وبحيث تتجه هذه الجمعيات فقط نحو النشاط والعمل على نشر الوعي الاجتماعي، ويتجه الحكم نحو ممارسة السلطة وصنع القرار السياسي بعيدا عنها، بيد أن مثل هذا النهج ليس فقط منافيا للعدالة القانونية والسلوك الاخلاقي، بل يعتبر بأنه خطأ قاتل في حق الجمعيات السياسية وقواعدها وجماهيرها .
اعتراضات جمعيات المعارضة
ولكنه خلال الفترة الاخيرة وبعد تزايد الضغوط والانتقادات والاعتراضات، التي مارستها أربع جمعيات سياسية معارضة، ضد قرارات الحكم بشأن قانون الانتخابات تراجع الاخير عن تمسكه بالمرسوم بقانون مجلسي الشورى والنواب الذي يحظر على الجمعيات السياسية اعلان المشاركة في الانتخابات ودعم لوائح ومرشحين آخرين، إلا أن ذلك لم يثني جميع هذه الجمعيات عن اصرارها وتمسكها بمواقفها المبدئية في مقاطعة الانتخابات القادمة التي صادرت حقها في المشاركة الانتخابية الصحيحة، وكذلك تكرار مطالبها بتعديل قانون الدوائر الانتخابية غير العادل والمنصف، وعلى المطالبة بضرورة اجراء حوار وطني مسؤول يخرج البلاد من المأزق السياسي التي مازالت تتخبط فيه، ويحقق للشعب جميع أهدافه ومطالبه الوطنية المحقة والعادلة، وكانوا بالفعل يسيرون نحو الصواب. فقد كان ذلك هو الواجب السياسي والاخلاقي لتلك الجمعيات وأسمى عمل وطني ملقى على عاتقها تجاه دكتاتورية السلطة وتعنتها وتصلبها .
واقعيا على الارض، تعني كل هذه الاوضاع المشوشة والمأزومة في الوقت الراهن، هو أنه لن يكون هناك تغيير جوهري بالمعنى الحقيقي والواقعي لتلك الاشكالية القانونية والدستورية، التي فجرت أزمة الثقة بين الحكم والمجتمع، وكانت هناك أصوت كثيرة أخذت ترتفع من داخل أسوار هذه الجمعيات وفي صفوف الجماهير أيضا، تطالب بجميع الحقوق المشروعة المنصوص عليها في ميثاق العمل الوطني ومن ابرزها على الاطلاق، اطلاق الحريات المدنية العامة، وحق المشاركة السياسية الكاملة في عمليات صنع القرار السياسي، وعودة العمل بدستور العام 1973 وعندما حالفني الحظ في اللقاء المباشر مع عدد من المواطنين البحرينيين ومن بينهم بعض قيادات ورموز وطنية واسلامية، وسالتهم عن رأيهم في ما يحدث على أرض الواقع، وجدتهم يشعرون بالمرارة والضيق في كل ما تقوم به السلطة البحرينية من خروقات فاضحة للتعهدات التي قطعتها على نفسها وامام المجتمع من خلال مشروع ميثاق العمل الوطني، بأن يكون الشعب هو مصدر السلطات جميعا، ويقولون أنهم قد خدعوا وخدلوا بالوعود الرنانة والاقوال المعسولة التي صاحبت قيام مشروع الاصلاح، ولكنهم بعد ذلك كله لن يجدوا أمامهم غير الاصرار على مواجهة كافة هذه التحديات الخطيرة باستخدام كافة الوسائل السلمية والعصرية المتاحة في هذا الوقت بعيدا عن الصدام العنيف مع السلطة، وانهم لن ينجروا مهما كلف الامر وراء استفزازات الاجهزة الامنية، التي مازالت تتقصى أحوال الناس بشكل صارم ومخيف، وترصد كل تحركاتهم وسكناتهم، في نفس الوقت كانت تلوح هناك شائعات تقول بأن مراحل ساخنة قد تحدث في خضم المعاناة والمرارة التي يتصدى لها المجتمع. وأن زمن الماضي القمعي التعسفي ربما قد يعود من جديد بواسطة بعض كبار “العرابين” من رموز الحرس القديم في نطاق المؤسسة الامنية، وهو احتمال قد يكون واردا وله ما قد يبرره، حيث أن نفود بعض هذه الرموز مازال يشكل العمود الفقري والقوة الضاربة في توجهات وتطلعات رموز وقادة هذه المؤسسة الصارمة، والدليل على ذلك هو قيام الحكم بتكريم بعضهم على تاريخهم ” البطولي الامني “، وقد تم منحهم أوسمة ونياشين ومراتب أمنية مهمة وكبيرة، ومواقع إدارية من الدرجة الاولى والثانية والثالثة .
الحلقة القادمة .. أوضاع القوى السياسية المعارضة، ووضع السلطة الحاكمة، وحريات التعبير، والوضع الاقتصادي المعيشي المتردي في البحرين
هاني الريس
12 شباط/ فبراير 2023