حوار هادىء وموزون مع عبدالرحمن النعيمي الأمين العام للجبهة الشعبية، قبل وبعد عودته إلى البحرين (1)
بعد حوالي 22 سنة متواصلة، من الاقامة في المنفى القسري لاسباب سياسية والعمل في صفوف المعارضة البحرينية في الخارج، وبعد اصرار شديد من قبل رفاق النضال الذين عملت معهم تحت مظلة واحدة في صفوف الجبهة الشعبية في البحرين، وكذلك الاهل والاصدقاء الذين دأبو على حثي للعودة إلى البحرين بعد التصويت على ميثاق العمل الوطني، والعمل معهم بين الناس الذين يعيشون حفلات ” أعراس الديمقراطية ” بحسب وصفهم، وأكدوا لي بأن جميع الأوضاع السياسية والأمنية في البحرين، أصبحت مستقرة وآمنة بعد قرار حاكم البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، بالغاء قانون ومحاكم أمن الدولة السيء الصيت، الذي أمعن بشدة في قهر الناس وسلب ارادتهم وتطلعاتهم الوطنية على امتداد عقود من الوقت، والذي شهدت خلاله البلاد مسيرات متواصلة من الاعتقالات التعسفية خارج اطار القانون، وبحور الدماء في التظاهرات والاحتجاجات المطلبية السلمية، ومشاهد القتل الشهيرة تحت التعذيب في أقبية المعتقلات والسجون الرهيبة.
وأن أمير البحرين ” الملك حاليا ” حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة، كان جادا في النهوض بمشروعه الاصلاحي الذي أطلق عنانه من القمقم، والذي حول بموجبه دولة المراقبة الأمنية إلى مملكة، وهو يسعى لتبني نموذج سياسي جديد في البحرين ونهضة تنموية ورخاء اقتصادي كبير يضاهي به الدول المتقدمة حول العالم.
وكانت هناك اتصالات مستمرة بيني وبين المهندس عبدالرحمن محمد النعيمي، الأمين العام للجبهة الشعبية في البحرين الذي كان يقيم يومها في دمشق، والذي كان قد عاد إلى البلاد بعد قرابة 35 عام من المنفى القسري بصحبة رفيقه في النضال عبد النبي العكري، وذلك على خلفية قرار العفو العام الشامل وغير المشروط، الذي أعلنه حاكم البحرين الجديد، حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة كخطوة تمهيدية أولية كما يبدو لمصالحة شاملة مع المجتمع، واعتماد النظام الدستوري في البحرين، والذي عاد بموجبه غالبية المنفيين والمبعدين البحرينيين في الخارج، وكانت جميع الاتصالات الهاتفية بيننا تستغرق الكثير من الوقت، عندما كان في دمشق ومن ثم بعد عودته إلى البحرين، في وقت كان يعمل فيه بجهود مضنية لحشد النخب والقيادات الوطنية لتأسيس مشروع ” التجمع الوطني الديمقراطي ” الذي كنا قد اتفقنا عليه في الخارج بعد عرض مسودته للمناقشة والتداول بين الرفاق في داخل الوطن.
وكنت أثق بكل حديث أو شعار كان يقوله لي الرفيق النعيمي، الذي أكن له بالغ الاحترام والتقدير، والذي كنت قد عملت معه بتفاني واخلاص تحت سقف خيمة واحدة طيلة سنوات المنافي القسرية، وذلك من أجل خدمة القضية الوطنية، وهو في الحقيقة ظل مناضل شرس، وصاحب مبدأ ثابت لا يتزحزح بالمطلق، وقائد حقيقي، وأب روحي لاجيال من المناضلين، ويتمتع برأي سديد، ونظرة استراتيجية بعيدة المدى حول ما يمكن أن يحدث على صعيد الساحة الوطنية والمنطقة، وكان الرجل يحرص على أن أكون واقفا إلى جانبه والانخراط في العمل والنشاط في صفوف رفاق النضال في الداخل، وذلك من أجل المشاركة والمساهمة في العمل الوطني المشترك التي كانت الجبهة الشعبية في البحرين تسعى فيه لتفريغ طاقاتها من الخبرة النضالية والتنظيمية في أجواء المرحلة الجديدة بعد التحولات والتغيرات في البحرين.
وأنه ـ بحسب ـ النعيمي، آن الأوان للعمل النضالي في الداخل وليس كما كنا مجبرين عليه في الخارج، ومن دون أن يرجف لنا الأمل، وبعد تردد من جانبي كان له ما يبرره حول المستقبل المجهول الذي تنتظره المرحلة الانتقالية الجديدة والصعبة وغير واضحة المعالم في البحرين، قلت للنعيمي، أن مشروع الاصلاح التي تبلورت مشاريعه وأهدافه وطموحاته وتطلعاته داخل الغرف المغلقة من دون مشاورة المجتمع أو حتى النخب السياسية الوطنية، مهما بلغ من مستوى متطور فهو سوف يبقى في نهاية المطاف بمثابة مشروع سلطة وليس مشروع للتقدم والتنمية الوطنية، حيث المقصود هنا أن تحصل العائلة الحاكمة على شرعية الاستمرار والبقاء في السلطة والحكم، بعد أن حاولت أن تضفي على نفسها هذه الشرعية وعجزت عن تحقيقها أمام اصرار الغالبية الشعبية التي تصدت لها باعتبار انها عائلة غازية مارست العسف والبطش، واحتلت الارض واغتصاب الكيان السياسي، من دون حصول الصفة الشرعية، وهي تحاول الآن أن تعيد أمجاد ماضيها القبلي، وتحقيق الحلم التي كانت قد عجزت عن تحقيقه بشتى الطرق الملتوية والوسائل، وأن تسقط من بين أيدينا لصالحها ثمار النضال السياسي الذي حققناه بجهود مضنية وبطاقة كبيرة من الشجاعة في مختلف المحافل الاقليمية والعربية والدولية، وذلك من أجل النهوض بالتغيير الحقيقي والجوهري وتشييد دولة النظام والقانون في البحرين.
وأضفت:” أن العائلة الخليفية الحاكمة التي استطاعت اليوم أن ترسخ اقدامها في البلاد بعد أن منحتها الغالبية الشعبية ” صفة الشرعية ” بعد التصويت لها ب ” نعم ” بنسبة عالية من الاصوات في صناديق الاقتراع بشأن الميثاق، وحضت لاول مرة بشرعية انتمائها للوطن، ليست مستعدة اليوم للتنازل بكل سهولة حتى عن شعار واحد من أهدافها وأحلامها المستمدة من موروث الغزو، وقد عرف عن منهجية تمسكها الشديد بهذا الموروث وعدم التفريط به مطلقا في تجارب كثيرة حدثت على مر التاريخ، وكان يتعسر عليها التخلي عنه لصالح أهداف وطموحات الشعب والمصلحة الوطنية العليا.
كما انه قد يستحيل عليها بعد أن استطاعت تأمين أصوات الغالبية الشعبية التي وقفت معها، أن تلتزم بخلق واقع جديد تصبح فيه جميع مراكز القوى والقرار ملكا للشعب، مهما قيل عن وجود نظام الحكم الديمقراطي الدستوري، التي تعطي فيه السيادة الكاملة للشعب كمصدر للسلطات جميعا، وانها بالتالي لن تسمح لا للارادة الشعبية ولا للمعارضة الوطنية في جميع الاحوال بأن تستقل عن نهج سياساتها الرسمية وتعمل بحرية كاملة من دون أن تضع لها عقبات أو صعقات خاطفة وكمائن خطيرة وصعبة، قد تكون اضرارها على المعارضة في الوقت الراهن وفي المستقبل أقسى من أية أضرار تجرعت كؤوس مرارتها على امتداد عقود مضت، ولذلك فان هناك شكوك كثيرة في ما إذا كانت المعارضة تستطيع العبور بسلام من مأزق التحديات الكبيرة المحتملة والمتوقع حدوثها في الوقت الراهن وفي المستقبل، أو أن تتعايش مع نظام مازال ينظر لها كمصدر تهديد رئيسي ويكن لها العداء الشديد على أساس تاريخ طويل من الشك ومن الصراع العنيف والدامي، ويسعي بقوة وجبروت من أجل تحجيم وتهميش دورها الواقعي والعملي في مواقع السلطة وصنع القرار.
وسالت النعيمي:” هل تريد المعارضة الحالية التي راهنت على مشروع الاصلاح وميثاق العمل الوطني، أن تبقى سياساتها وتوجهاتها وتطلعاتها الوطنية مرهونة في أيادي سلطة عشائرية طائفية مازالت تنظر بفوقية بالكامل للمعارضة وللارادة العامة الشعبية؟ وهل تريد هذه المعارضة أيضا للاجيال الحاضرة واللاحقة أن تدفع ثمن مشروع سياسي مختل وغير واضح المعالم ويكون فيه النظام مهيمن هيمنة كاملة على كل مفاصل الدولة والمجتمع ومن دون أن يعير لها أي اهتمام يذكر ولو حتى في مجال نسبي؟ ومن ثم ماذا سيحدث من كارثة مهولة متوقعة اذا ما تقلصت بالفعل سقوف مشروع الاصلاح أو انهارت بشكل بارز؟ واذا ما نجحت السلطة في كسر شوكة المعارضة المطالبة بالتغيير الحقيقي والجوهري، من خلال محاولات التصدي بشدة لجميع مطالبها المحقة والمشروعة ومنعها من تحقيق أهدافها وتطلعاتها الوطنية ؟
وكان جوابه:” نحن في واقع الحال، كنا نعرف جيدا جميع الإكراهات التي حاولت أن تضيق علينا الخناق في الممارسة السياسية في السابق، ودفعنا خلالها أثمان باهضة في النضال ولم نستطيع بلوغ جميع اهدافنا وتطلعاتنا كاملة، ولكننا بدأنا نشعر الآن بشيء من الأمل نحو التغيرات الجديدة، التي حدثت في البلاد، وبأنه يوجد هناك تحول جدي من جانب السلطة في الاستعداد للتغيير المطلوب والحوار مع المعارضة، وذلك ليس من دون وضع صعوبات أو عراقيل، وهذا ربما قد يحدث في الواقع الحقيقي عندما يتم الانتقال من إطار سلطوي مطلق واستبدادي إلى إطار ديمقراطي، وكل شيء يبقى وارد في حسابات البيدر والحقل، ولكن تبقى مهمتنا الرئيسية،هي التسلح بالارادة والصبر، والاستفادة الكاملة من جميع جوانب هذه الفرصة التاريخية الثمينة، التي أخذت تلوح أمامنا بوضوح في الوقت الراهن، والتي كنا نتوق للاستفادة منها بالفعل على امتداد عقود طويلة من الصراع مع السلطة، وذلك من أجل استتباب الأمن والاستقرار والتعايش والتفاهم المشترك الذي قد يقود نحو تشييد نظام الدولة المدنية، والبدء في العمل الجاد والمخلص من أجل تأسيس تقاليد جديدة للنشاط السياسي والتنظيمي والنقابي والحقوقي والميداني في البحرين، يختلف تماما عن كل ماكنا نمارسه في السابق من تحت الارض، وأن نحاول في الدفع المستميت بالاجيال الصاعدة من الشباب للامام لكي يستفيدوا من خبرات وتجارب نضالاتنا وتضحياتنا السابقة، ولكي يتمكنوا من حمل الراية الوطنية من بعدنا، ويرثوا كل تاريخنا السياسي والنضالي الذي حققناه على امتداد العقود الطويلة الماضية، وبعد ذلك سيكون لكل حادث حديث.
قلت للنعيمي، المعارضة بجميع فصائلها الوطنية والاسلامية، وحنى العديد من السياسيين المستقلين سارعوا في ركوب قطار التغيير، قبل أن تأخذ التطورات في البلاد مسارا واضحا وصحيحا وبشكل موزون، وردوا بايجابية تامة على جميع خطوات مشروع الاصلاح، التي تحققت خلال فترة زمنية قصيرة كنوع من ذر الرماد في العيون، ولكنه للاسف الشديد لم تعرض قوى المعارضة حتى الآن خطا موحداً ومتبلوراً للامور الجديدة، ولم تكلف نفسها حتى للدعوة بينها للتشاور للعمل على تأسيس مشروع وطني متكامل وموسع يخدم اهدافها وتطلعاتها للحاضر والمستقبل، ويظهر للشعب بانها بالفعل موحدة ومتضامنة ومخلصة وكفؤة وقادرة على العمل وبشدة لمواجهة أية تحديات خطيرة يمكن لها أن تزعزع أركانها وتفرقها وتذهب بها بعيدا جدا عن طرح جميع الاهداف الوطنية الملحة والمطلوبة، ولكن ما أخذت تبدو عليه الامور في نظري، هو انها ربما قد خدعت بشكل سريع ومضلل في هذا المجال بكثرة الشعارات المنمقة والرنانة التي سطرت حروفها ” الذهبية ” في قوالب مشروع الاصلاح وميثاق العمل الوطني، وكذلك الاستقرار البوليسي النسبي في الوقت الراهن، والذي بدأ يتبلور تدريجيا في أعقاب صدور الاعلان الاميري عن تجميد ثم الغاء قانون أمن الدولة ومحاكم أمن الدولة السيئة الصيت، وتنظيف السجون والمعتقلات من النشطاء السياسيين والحقوقيين.
الا انه من جانبي ـ قلت للنعيمي ـ أرى في ذلك الاستقرار بانه لايعدو كونه استقرار مزيف ووهمي ويخفي في طياته خواء سياسي وحقوقي وأمني مخيف للغاية، ثم استدركت قائلا له، كيف يمكن للمعارضة البحرينية التي اعتدت بنفسها وبقدرتها على فهم سياسات النظام الرجعي والمتخلف في البحرين، وسعت لمواجهتها بجميع الوسائل المتحضرة والعصرية، واستفادت كثيرا من تجارب نضالات الشعوب الحية، طوال سنوات النضال البعيدة أن تثق في نظام سياسي لايزال يطرح أفكارا تخطاها العالم، وقد اختصر الرغبة الآن في المصالحة مع نفسه وليس المصالحة الحقيقية مع المجتمع، أو حتى مع المعارضة نفسها عندما استطاع أن يركن الجميع ويحشرهم في زاويا ضيقة، ويبتعد عنهم بخطوات بل أميال طويلة وبشكل مؤلم ومحير، عندما شرع في تأسيس دعائم مشروعه الاصلاحي المزعوم، من دون مشورتهم والاعتراف بهم، وتكفل بنفسه وبشكل منفرد في حياكة جميع الخيوط الرئيسية والمهمة لهذا المشروع، ومن دون أن تكون هناك أية بدائل ملحة لتغيير بنية نظام الحكم العشائري الاستبدادي، والعمل على تنفيذ التغيرات الجوهرية الضرورية المطلوبة على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والمدنية لجعل الديمقراطية والحقوق المدنية والحريات، حقائق قائمة على أرض الواقع؟
أجاب النعيمي:” نحن ندرك جميع تلك الأمور الصعبة التي يمكن أن تحدث في ظل هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة والحساسة، ونحن قد وضعنا في حساباتنا ومواقفنا المبدئية في مقابل ذلك، كل ما يمكن العمل به بالوسائل الشرعية لمواجهة أي توجه خطير يمكن أن يعطل أو يعيق مجريات العملية الديمقراطية القائمة حاليا في البحرين، ولكن ما تبدو عليه الأمور حتى الآن ـ والكلام مازال للنعيمي ـ هو أن الخطوات التي بدأت السلطة البحرينية بتنفيذها اليوم، تتلائم تماما مع التعهدات التي طرحها الامير حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة، في مشروع الميثاق، وأعتقد بأنها هي التي يمكن أن تفتح أبواب المصالحة بيننا وبين النظام على اسس قانونية، وانها بالتالي يمكن أن تكون مؤثرة ومهمة لقبول القواسم المشتركة بين الحكم والمجتمع، إذا ما صدقت نوايا الجميع، واذا ما أخذت تسير الامور على الوتيرة نفسها التي بدأت بها السلطة في الانفتاح على المجتمع.
لم أطرح أية أسئلة أخرى على النعيمي، وفي الدهن الكثير الكثير مما يستوجب قوله في هذا الشأن، سوى انني قلت في كلمة أخيرة ” انني أخشى على المعارضة أن تكون لقمة صائغة في فم السلطة، وانها سوف تندم كثيرا على هذه الثقة المفرطة التي منحتها لها “، ( وهذا هو بالضبط الذي يحصل الآن ) ولكن بعد كل ما كنت قد سمعته على لسان النعيمي، بأن الامور بدأت تتغير بوتائر سريعة، وتسير بخطوات ملائمة في البحرين، واعتقد انها سوف تنهي عصور من الصراع، وتمهد لدخول البلاد عصر جديد من التسامح والتعايش السلمي والاستقرار، فكرت بالعودة إلى البلاد من المنفى، ولكن بشيء قليل من التفاؤل، وذلك من أجل أن أرى بأم عيني كل ما قد وصلت إليه الاوضاع الجديدة في البحرين، في ظل ما سمي ” بمشروع الاصلاح وميثاق العمل الوطني “، وأن أكون شاهد عيان على جميع ما يحدث من تحولات وتطورات جديدة على الساحة .
الحلقة القادمة .. الزيارة الأولى والثانية للبحرين
هاني الريس
17 آب/ أغسطس 2022