تحية إلى شيخ المجاهدين في البحرين .. في ذكرى رحيله
“أيها الشيخ الجمري كنت حقا مجاهدا شرسا وخادم الجميع وأبو الضعفاء والفقراء في البحرين”
في ساعات الصباح الباكر، عشية رحيل سماحة الشيخ عبدالامير الجمري، في 18 كانون الاول/ ديسمبر 2006 هاتفني الزميل والناشط السياسي، المهندس سعيد العسبول (أبوغسان) ليزف لي خبر مؤلم مفاده أن، سماحة الشيخ عبدالامير الجمري، قد رحل البارحة إلى جوار ربه راضيا مرضيا.
وأن رجل الدين الشجاع والمناضل الشرس الذي ضحى بكل غال ونفيس من أجل الحرية والديمقراطية وجميع الضعفاء والفقراء في البحرين، والذي ذاق مرارة السجون والتعذيب النفسي والتنكيل بجميع أفراد عائلته من دون وجه حق. استشهد بعد معاناة شديدة مع الامراض القاتلة التي تعرض لها في غياهب السجن.
رحل الشيخ الجليل، في غفلة من الزمن، بعد أن كان قد ملا الدنيا وشغل الناس في البحرين بنضالاته الصلبة المعروفة. طلب مني سعيد العسبول مرافقته في المساء لتقديم وأجب العزاء لعائلة الشهيد الشيخ الجمري، وقال أنه كان متفقا في الأساس مع الزملاء: علي قاسم ربيعة، والمهندس هشام الشهابي، والمحامي أحمد الشملان، والشيخ عيسى الجودر، وعضو البرلمان البحريني المنحل جاسم مراد، والجميع (كانوا رفاق الشيخ الجمري في لجنة العريضة الشعبية، التي قادت نضالات الانتفاضة الدستورية في حقبة سنوات التسعينات من القرن الماضي)، كي نذهب جميعا وفي سيارة واحدة، إلى قرية بني جمرة مسقط رأس سماحة الشيخ الجمري، وتقديم العزاء إلى زوجته الفاضلة (أم جميل) وأبنائه وجميع أفراد عائلته، وذهبنا إلى هناك في سيارة الزميل هشام الشهابي (أبوعمر). شاهدت في تلك الليلة التي أتسمت أجواءها بالبرد القارس، قوافل بشرية جرارة، وسلسلة طويلة المدى من سيارات المواطنيين القادمين من مختلف المناطق البحرينية، إلى تلك القرية رافعين الرايات السوداء والخضراء، وتنطلق من حناجرهم زغاريد الحزن والبكاء والعويل على رحيل الرمز الوطني الكبير سماحة الشيخ الجمري. أستمرت القوافل البشرية والسيارات، تحث الخطى في تلك الليلة الزمهريرية القارسة حتى ساعات الصباح الباكر ومن دون توقف، ومتوجهة في الساعات التالية وعلى امتداد ثلاثة أيام إلى مسجد سار الكبير، لقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة، بعد أن وورى جثمانه الثرى في مثواه الاخير في مقبرة بني جمرة مسقط رأسه، وذلك من خلال موكب جنائزي مهيب شارك فيه عشرات الالاف من المواطنيين، يتقدمهم أفراد العائلة الكريمة وحشد من رجال الدين والمثقفين ورموز وقيادات الحركة الوطنية والاسلامية، وأعضاء لجنتي العريضتين النخبوية والشعبية، وعدد من كبار المسؤولين في البحرين، وكان بعض الاشخاص المعجبون بنضالات الشيخ الجمري وتضحياته الوطنية، قد نقشوا على أجسادهم شعارات بالحبر الاحمر والاسود مثل ” ستبقى يا أبا جميل حيا في قلوبنا، ونبراسا يضيء لنا طريق النضال لنيل حقوقنا ومطالبنا العادلة كاملة” .
قاد سماحة الشيخ الجمري، مسيرة كفاح طويلة وشرسة وقطع جميع أشواطها ومحطاتها مابين دراسة العلوم الدينية والفقه الاسلامي والعمل السياسي والنضال الوطني الميداني، فكان واحدا من عمالقة القادة الاسلاميين والوطنيين الذين تصدوا إلى الظلم المطلق والاستبداد، وحضوا بتكريم الشعب لهم في حياتهم ومن بعد رحيلهم إلى عالم الآخرة، وعلى امتداد تلك المسيرة الشاقة والطويلة قدم سماحة الشيخ الجمري الكثير من الواجبات والالتزامات الوطنية المطلوبة، من دون ان يتلون فكره بلون أو يرتهن إلى أي رأي أو ينحاز إلى أي فئة أو طائفة من طوائف المجتمع البحريني، وعاصر الكثير من الاحداث التاريخية التي شهدتها البحرين وما أكثرها، وصاحب الكثير من علماء الدين والمثقفين والشعراء والسياسيين والحقوقيين من دون أن يثير عداوة أحد، وهو قد استطاع أن يجمع من حوله الأضداد ويبقى على مسافة واحدة من الجميع، ولم يحاول أن يختلف مع أصحاب الافكار والمعتقدات الاخرى السياسية أوالايديولوجية المختلفة، ولم يحرض بالمطلق على الطائفية، حمل قيم الاعتدال والجهود الخيرة للتغلب على كل ما يفرق بين الناس ويباعد بينهم، بقدر ما كان يبحث عن الحلول التي تضمن التعايش السلمي في المجتمع .
ولم تنسى البحرين، عالم الدين الجليل والفقيه والقاضي العادل في المحاكم الجعفرية وعضو البرلمان البحريني “المنحل” وقائد مسيرة الانتفاضة الدستورية، ووالد الجميع وحاضن الجميع من أبناء البحرين، سماحة الشيخ الجمري، والذي ظل يتصف دائما بالزهد والورع وحب الخير للجميع من دون تمييز أو تفضيل .
ولم ينسى شعب البحرين، كل ما كان قد تعرض له ذلك الشيخ الجليل الوقور، من صنوف الاضطهاد والعسف الخاص، على أيادي السلطة البحرينية ومختلف أجهزتها القمعية، أبان سنوات الانتفاضة الدستورية المطالبة بعودة البرلمان البحريني وعودة المواد الحيوية المعطلة من دستور البحرين التعاقدي للعام 1973 التي قادها بمنتهى الحكمة والتعقل والصبر .
ولم ينسى جيل تلك الانتفاضة الكبيرة التي هزت البلاد برمتها، والتي أخرجت أركان السلطة والحكم من طورهم ليمارسوا بعدها أبشع عمليات القتل والانتقام تحت التعذيب وبواسطة الرصاص الحي والمطاطي ضد المواطنين البحرينيين في التظاهرات الشعبية المطالبة بالتغيير الحقيقي والجوهري ونشر العدل والسلام والوئام والاستقرار واقامة الدولة الدستورية المدنية، ويشنوا أوسع حملات الاعتقال التعسفي ضد المواطنين الآمنين، وينتهكون الاعراض ويشردون العوائل إلى أرض الله الواسعة، ومن بعدهم الاجيال المكملة لتلك المسيرة، ما كان قد قدمه سماحة الشيخ الجمري، من تضحيات جسام على مذبح الحكم، ومن تكرار فترات الاعتقال الرهيبة، التي ذاق خلالها الآمرين من المضايقات الشديد والتعذيب النفسي الصارم داخل وخارج اسوار السجن، وكذلك الحصار الشديد والمحكم المفروض على محيط منزله في بني جمرة، خلال مكوثه تحت قيود الاقامة الجبرية .
شعلة نور ونار
كان سماحة الشيخ الجمري، بمثابة “شعلة نور ونار” في زمن بالغ الخطر والمخاطر التي ظلت تتربص بالشعب والوطن، وفي زمن استطاعت خلاله السلطة البحرينية بجميع أدوات القمع الصارخة والبشعة أن تلجم أصوات المطالبين بالتغيير واسترجاع الحقوق المسلوبة من شعب البحرين، فكان فارسا مقداما للمطالبة بالاصلاح الحقيقي والجوهري في البلاد، من دون استخدام أساليب القوة والعنف أو اراقة الدماء، وكان في مقدمة الصفوف التي ظلت تخرج في التظاهرات الاحتجاجية المطلبية في مختلف ساحات وشوارع المدن والقرى البحرينية، وتواجه صنوف القمع والتنكيل، وحتى في خلال الفترة التي أرغمه فيها المرض على المكوث في المنزل، كان سماحة الشيخ الجمري، يجاهد ويناضل بصوته ولسانه ويدعوا الناس لمتابعة النضال والثورة ضد كافة المظالم غير المكبوحة التي يتعرض لها الشعب، على أيادي السلطة البحرينية ومختلف أجهزتها الاستبدادية القمعية .
بقي سماحة الشيخ الجمري، رغم شدة تلك الاهوال التي لحقت به خلال مسيرته في النضال، متمسكا بقوة بتراب الوطن، صامدا صابرا ومكابرا في وجه القمع وقهر الانسان، ومتمسكا بشعبه ونضالات شعبه الباسلة، وظل على طول الخط يرفض الفرار من أرض الميدان، خوفا من البطش، ورافضا السعي لتقديم اللجوء السياسي في الملاذات الامنة، التي حاول أن يلجأ اليها غيره من رجال الدين والسياسيين البحرينيين السابقين واللاحقين، كما ظل يرفض أن يكون تابعا لتيارا معينا أو جهة معينة أو أن يكون مرتهنا إلى أي دولة أجنبية .
رحم الله الشيخ الجمري، واسكن روحه الطاهرة فسيح جناته مع الشهداء الخالدين والابرار
هاني الريس
27 كانون الأول/ ديسمبر 2021