انتفاضة 5 مارس: الصورة والذاكرة
يسعدني ان صحيفة «الوسط» كرمت رفيق النضال المهندس عبدالنبي العكري مساء أمس (4 مارس/ آذار 2008)، وهو تكريم يتناسب مع ذكرى انتفاضة 5 مارس المجيدة.
ففي فبراير / شباط 1965، أقدمت شركة نفط البحرين المحدودة (بابكو)، على فصل أكثر من 500 عامل بحريني من وظائفهم دفعة واحدة، دون أي مبرر. وحاول المسئولون في الشركة تبرير هذا التصرف بأن ما جرى هو نتيجة للانتقال الى الانتاج الاتوماتيكي، ولكن كانت هناك أيضا أسباب أخرى، منها محاولة التخلص من العامل البحريني واستبداله بآخر اجنبي من الايدي العاملة الارخص، في مسعى واضح لزيادة الاحتكار واستغلال الثروة. وكانت ردة الفعل على ذلك الحدث هو ان تقدم العمال المفصولون برسالة شكوى الى دائرة العمل والعمال احتجاجا على ذلك التصرف، حيث تجمهروا هناك باعداد كبيرة واطلقوا صيحات التنديد بهذا القرار وتحميل المسئولين في الشركة وكذلك الحكومة المسئوولية في هذه القضية، فكانت تلك الصيحات المدوية والتي وصل صداها الى انحاء واسعة من العالم خلال قيام وكالات الانباء العالمية نشر تفاصيل الحدث البحريني.
لم يجد العمال وعائلاتهم واصدقاؤهم سوى التظاهر والاحتجاج، في مواقع العمل والساحات والمدارس. ثم تطورت الامور بعد رفض المسئوولين في الشركة وفي الحكومة النداءات المطالبة بمخرج او تسوية، وبدا العد التنازلي للانتفاضة العمالية، فانطلقت في الخامس من مارس 1965 وتطورت الامور الى تحرك شعبي يطالب ليس فقط بعودة العمال المفصولين الى اعمالهم ومنع الاجراءات بحق التنظيم النقابي في البحرين، بل ايضا محاسبة المسئوولين عن افتعال تلك الازمة.
كانت هناك ايضا اسباب اخرى ساعدت على اشتعال هذه الانتفاضة ابرزها تراكم الاستياء الشعبي من الممارسات الخاطئة والظالمة ضد فئات وشرائح كثيرة من افراد الشعب والاجواء الامنية المشددة المفروضة على البلاد منذ قمع انتفاضة هيئة الاتحاد الوطني في 1956، حيث توسعت اجراءات الامن في البلاد وتعرضت مختلف فصائل الحركة الوطنية الى ملاحقات واعتقالات، كما تزايد النفوذ البريطاني والعسكري والسياسي والامني، وهذا ما لمس في تزايد تدخلات المقيم السياسي البريطاني ومعاونيه في الشأن الداخلي.
وهكذا كان من الطبيعي امام تعنت شركة النفط والحكومة بعدم الاستجابة لمطلب اعادة العمال المفصولين الى اعمالهم ان تحدث موجة سخط شديدة في اوساط الجماهير شلت بعض مرافق الحياة العامة في البلاد، وبهذا تفاعلت الاحداث المطلبية مع الهموم المجتمعية الكبيرة لتولد الشرارة الاولى لانتفاضة مارس المجيدة.
كانت اهداف الانتفاضة وطموحاتها وتطلعاتها سلمية عكس ما ادعت الحكومة من انها تخريبية وتصب في مصلحة قوى خارجية. حيث خرج الطلبة والعمال صفا واحدا في وجه آلة القمع البريطانية، منادين بمطالبهم العادلة في الحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية، وكلما قامت شركة النفط بتسريح العشرات من العمال الفقراء كل يوم، خرجت مجاميع العمال الى مكاتب الشركة في مدينة العوالي مطالبة بحقوقها. فما كان من مدير الشركة الاميركي جوزيفسون الا ان استدعى قوات الامن لمهاجمة حشود العمال واعتقلت منهم الكثير. ومارست ضدهم التعذيب فانطلقت مسيرات الغضب الشعبي ضد القوات البريطاِنية التي هاجمت تظاهرات العمال والطلاب بعنف لا مثيل له في قوته وبطشه، وكذلك الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية.
ودارت خلال الاسبوع الاول من شهر مارس 1965 أعنف المواجهات بين قوات الامن التي استعانت بالمرتزقة الاجانب وبين المواطنين في المحرق والمنامة والحد وقرى البحرين. وكانت قوات الامن معززة بالمصفحات وفرق الخيالة وقام جنودها وضباطها برصد تحركات المتظاهرين التي اشتد وطيسها في فناء المدرسة الثانوية بالمنامة وعند مركز شرطة القضيبية وبوابة القلعة وفريق المخارقة، وكذلك التظاهرات القادمة من المحرق والحد، ووضع الخطط الامنية الصارمة لردعها.
نجحت قوات الامن بمسعاها بفضل القسوة والبطش بالمواطنين وألقت القبض على الكثيرين استنادا الى صور اخذت عن طريق الطائرات المروحية التي كانت تحلق بكثافة في اجواء مناطق الاضطرابات وساقتهم الى المعتقلات. اعتقدت الحكومة وسلطة الحماية البريطانية انها استطاعت اخماد جذوة الانتفاضة الا انها كانت مخطئة وغير مدركة لخطورة الموقف. فقد تناقلت وسائل الاعلام الدولية والعربية ما حدث في البحرين من تحركات مطلبية والقوة المفرطة من قبل الحكومة وسقوط الشهداء واضراب الطلاب وغلق التجار لمتاجرهم، وهذا ما جعل القيامة تقوم في نظر الحكومة اذ اخذت تفقد شرعيتها السياسية والامنية نتيجة عدم قدرتها على حماية مواطنيها، وتوفير الامن والاستقرار.
سقط في تلك الانتفاضة الشهداء عبدالله سعيد الغانم وعبدالله حسن بونوده وعبدالنبي محمد سرحان وعبدالله مرهون سرحان وفيصل عباس القصاب وجاسم خليل عبدالله وعشرات غيرهم ممن اصيبوا بطلقات الرصاص الحي او دهسات خيول الشرطة، مع شن حملات اعتقال واسعة النطاق في اوساط المواطنين من اجل اعادة الامور الى طبيعتها، لكنها لم تفلح حتى استجابت شركة النفط باعادة العمال المفصولين الى اعمالهم.
ومنذ ذلك الوقت بقيت انتفاضة مارس ذكرى خالدة في القلوب والافئدة، وضمانا لاستمرار الشعب في المطالبة بالحقوق، ولا شك ان من رحم هذه الانتفاضة المجيدة تولدت تجارب نضالية جديدة وانتفاضات لاحقة كانت كلها تنادي بالحرية والديمقراطية وحقوق الانسا ن والسيادة الوطنية.