اليسار الأوروبي في أزمة
صرح عدد من خبراء السياسة والاجتماع لـ «صحيفة يولاند بوستن» الدنماركية اليومية، عشية الانتخابات البلدية الأخيرة التي جرت في المملكة المتحدة البريطانية، والذي تعرض خلالها حزب العمال الحاكم إلى هزيمة ساحقة أمام حزب المحافظين (24 في المئة) من أصوات الناخبين في مقابل (44 في المئة) لصالح المحافظين، أدت في نهاية الأمر إلى تضييق قاعدته وتقهقره إلى المركز الثالث من حيث المرتبة الوطنية، بأن السلطة التي تقودها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية (اليسارية) في أوروبا أخذت تتقهقر وتنزلق لصالح المحافظين.
ويشير هؤلاء، إلى أنه قبل عشر سنوات فقط، كانت هناك إحدى عشرة دولة أوروبية، خاضعة لسيطرة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، التي وصلت إلى الحكم من خلال طرحها للبرامج الإصلاحية (السياسية والاجتماعية والاقتصادية) التي اجتذبت الكثير من القواعد الشعبية وخصوصا بين الطبقات المتوسطة والفقيرة. وأما اليوم، فلم يبق منها سوى سبع دول تقودها أحزاب اشتراكية ديمقراطية (يسارية)، بالإضافة إلى ذلك، فإن الديمقراطيات الاشتراكية في بلدان كثيرة مثل ألمانيا وبريطانيا، يعانون من أزمات خانقة على رغم وجودهم في مواقع الحكم، وتبنيهم بعض البرامج الإصلاحية الجديدة. ولذلك فإن هذه الأحزاب صارت تكافح اليوم من أجل صوغ برامج سياسية واجتماعية واقتصادية أكثر حداثة لمحاكاة الواقع، وخصوصا بعد أن أصبحت دولة الرفاهية تشكل بالنسبة إلى البعض ملكية برجوازية خاصة، ومنطلقا لتنويع مصادر الاقتصاد.
وتفيد تقارير صحافية من أوروبا حديثا، بأن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية العريقة، التي كانت تعمل بفاعلية من أجل قيام مجتمع الرفاهية والمساواة بين المواطنين، تصطدم اليوم بمشكلات عديدة، بسبب العولمة والتوسع الجغرافي في القارة الأوروبية، وعجز اقتصاداتها عن تلبية متطلبات الحياة بفعل التزايد السكاني، وتعثرها في مكافحة أسباب الجريمة والفساد ووقف تدفق موجات العمال المهاجرين ومعالجة قضايا البطالة المتنامية في صفوف العمالة الوطنية وتخفيف نسب التضخم، هذا بالإضافة إلى عوامل الملل والإحباط التي أصابت معظم القواعد الشعبية التي صوتت لتلك الأحزاب على أساس برامجها الاقتصادية (الجديدة)، ولكن من دون أن تجد ما كانت تصبوا وتتوق إليه.
يقول البروفيسور هننك يورنسن، من مركز أبحاث سوق العمل في جامعة البورغ الدنماركية (لم يبق في القارة الأوروبية الآن سوى أماكن قليلة جدا، يمكن للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، أن تحقق فيها بعض النجاحات، إذا ما حاولت أن تطرح للجماهير برامج حديثة، وتمارس نهجا سياسيا واقتصاديا مختلفا يكون مبنيا على صدقية عالية والتركيز على أحداث تغييرات حقيقية للنهوض بمشروعات الدولة والمجتمع.
ويشير البروفيسور رودني باركر، من كلية لندن للتجارة، إلى أن التغييرات تعود أيضا إلى مصادفات تظهر على موجات متنامية تكشف عن نزعات معينة، وسلوك اجتماعي، ويضيف (منذ انتهاء الحرب الباردة برزت هناك حالة من البحث عن الهوية، لم تنته بعد، وكانت نتيجة ذلك إلى حد اللحظة الراهنة، أن المواقف السياسية صارت تتجدد إلى حد بعيد انطلاقا من الافتراض بوجود أعداء محتملين، في مناطق متعددة من العالم، يستوجب التصدي لهم بالحيطة والحذر.
إن الرياح المؤاتية للاشتراكيين الديمقراطيين، جاءت بشكل جاد ومقنن في بريطانيا، عندما نجح طوني بلير وحزب العمال العام 1997، في تسلم السلطة بعد 18 سنة من حكم المحافظين لسنوات عديدة، كان حينها طوني بلير، يمثل «القدوة والنموذج»، في أوروبا، فبعد مؤتمر بلاك بول الذي عقد في العام 1996، بعد تمرد النقابات العمالية في الحزب وطرحها بعض المطالب التجديدية، والتي تركت عموما انعكاسات سلبية واضحة على الأوضاع الداخلية للحزب، أخذ طوني بلير على عاتقة مهمة تجديد مشروعات وبرامج الحزب وتحصين وحدته، فنشط على أكثر من صعيد في عمليات تسويق ما وصفه ببرنامج «الرؤية الجديدة»، للنهوض بالمجتمع من تعثره، وكان ذلك في الوقت نفسه الذي كان فيه حزب المحافظين، ينتهج سياسات قديمة عفا عليها الزمن، ودخول قيادات الحزب في انقسامات حادة حيال الموقف من الوحدة الأوروبية، ناهيك عن تورط بعض قادته البارزين، بقضايا الفساد الإداري والمالي، عند ذلك استطاع طوني بلير أن يكسب ودّ الناخب البريطاني، عندما سارع بطرح برنامج التغيير الحقيقي والمحدود للنهوض بالدولة والمجتمع، والذي أبقى حزبه متربعا على سدة الحكم إلى هذا الوقت، ولكنه يبقى مع خليفته غوردن براون، مهندس سياسات الاقتصاد البريطاني، يشعران اليوم بأزمة حادة تواجههما في الطريق إلى استعادة عافية الحزب وتجميع أنصاره وقواعده، بعد تلقيه هذه الهزيمة الساحقة من منافسه حزب المحافظين، والتي بدأت بالفعل تقلق حكومة غوردن براون في صراع البقاء على السلطة، عندما يحين موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة.
السمة الأساسية البارزة الآن بالنسبة إلى الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا، هي أن هذه الأحزاب لم تعد قادرة تماما على رؤية القيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تشغل الناخبين في أوروبا، والذين يهمهم دائما شعار التجديد والتغيير الحقيقي والجوهري، على تلك القيم والأوجه المحملة بالرموز والوعود الرنانة التي تسبح في الهواء الطلق من دون أن يستفيد منها الناس على واقع الأرض.
والحقيقة، أنه لم يعد الناخبون في أوروبا اليوم مقيدين إلى ولاءات ثابتة بفعل تاريخهم الاجتماعي، أو انتماءاتهم العقائدية والمذهبية أو ظروفهم الاقتصادية، ولكنهم يشعرون تماما بحرية اختيار الحزب الذي يمكن أن يحقق لهم السعادة والأمن والاستقرار ويوفر لهم العمل والصحة والتعليم وتكافؤ الفرص الاجتماعية والمساواة والعدل.