المهاجرون في فرنسا… من العبودية إلى العنصرية
بمناسبة استقباله وفد جمعية احياء العبودية في فرنسا العام 2006 أعلن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك أن يوم العاشر من مايو/ أيار من كل عام سيظل يوما وطنيا في فرنسا لتخليد ذكرى ضحايا العبودية الذين تم استغلالهم في الماضي الاستعماري في القارة الإفريقية وفي غيرها من المناطق الواقعة في قبضة الاحتلال الفرنسي. وبهذا أصبحت فرنسا أول دولة في أوروبا تعترف بضحايا العبودية، بعد أن كانت ألغتها نهائيا وإلى الأبد في نيسان/ أبريل من العام 1848.
ومعروف أن تاريخا طويلا يمتد إلى نحو قرنين من العبودية مارسته فرنسا في مستعمراتها السابقة على أكثر من أربعة ملايين إنسان من العبيد الأفارقة الذين تم استغلالهم واستخدامهم في أعمال السخرة القسرية القهرية، أو بيعهم في أسواق النخاسة أو يشترون في تجارة الرقيق، أو يدفعون ليحترقوا في أتون الحروب التي كانت تخوضها فرنسا في القارة الأوروبية وعلى المستوى العالمي.
ولكن عندما تفجر بركان الثورة الشعبية في عموم فرنسا العام 1789، وبدأت تنتشر في المجتمع ثقافة الحضارة والسلم والأمن والاستقرار وقيم التعايش المشترك والتعاون والإخاء واحترام الآخر انطلقت في الأفق إمكانات واسعة، ناقشت قضايا كثيرة من أجل تحرير العبيد، وتحريم تجارة الرقيق، توجت بما جاء في دستور البلاد العام 1794 الذي ألغى فكرة العبودية بشكل قاطع ورسمي، نزولا عند إرادة ورغبة الدولة والمجتمع، ولكن نابليون بونابرت الضابط الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري، وفرض قبضه طاغية على البلاد حاول أن يستعيد فكرة العبودية من جديد، على غرار تلك الفكرة الظالمة التي كرسها النظام الملكي المستبد في فرنسا، إذ ظل يستعبد الناس ويستبد بمصالحهم ويشن الحروب غير المبررة، من أجل تلبية طموحاته الشخصية وتطلعاته الاستعمارية التوسعية، واعتبارا من العام 1830 كانت تجري هناك بعض المحاولات من جانب القوى المدافعة عن قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لإلغاء العبودية وتحقيرها، إلى أن استطاعت الثورة الفرنسية الكبرى العام 1848 أن تضع حدا نهائيا للعبودية والرق، عندما تم بشكل رسمي إصدار «إعلان حقوق الإنسان» الذي أخذ يساوي بين الأحرار والعبيد في الحقوق، فأعلنت صراحة «أن جميع الناس يولدون أحرارا».
وبعد مرور 160 عاما على إلغاء العبودية في فرنسا، وبناء على التصريحات المتكررة لكبار القادة السياسيين في البلاد التي تقول إن فرنسا لاتزال تسير في نهج التقاليد الديمقراطية الأصيلة وحكم القانون ومراعاة حقوق الإنسان، فإن الأمور بالنسبة إلى ما يراه مئات آلاف من المواطنين السود في فرنسا الذين أحيوا ذكرى ضحايا العبودية في المسيرة الحاشدة التي جابت شوارع باريس 10 من مايو/ أيار 2008، وطالبوا فيها الحكومة الفرنسية بإنهاء التمييز العنصري ضدهم وحالة الإقصاء وإنصاف ضحايا تجارة الرقيق وفسح المجال للمواطنين الملونين بالمشاركة والعمل في جميع مؤسسات الدولة الرسمية أسوة بالمواطن الفرنسي الأصلي الذي يتمتع بالحقوق والواجبات التي يكفلها الدستور للجميع، يرون أنها اليوم بعيدة عن الواقع المعاش، بل وأن هناك فجوة تتزايد بشكل مستمر في مختلف شئون الحياة العامة بين الفقراء والأغنياء في فرنسا، بين الازدهار الاقتصادي المتسارع في مناطق الأغنياء وبين الأحياء الفقيرة التي يعاني غالبية سكانها من الحرمان والتعطل عن العمل والتمييز العرقي ومختلف صنوف العنصرية المقيتة.
ففي فرنسا هذا البلد الحضاري الأوروبي الذي ألغت أنظمته ودساتيره فكرة العبودية وتجارة الرق، وأدخلت في صلب مبادئها الإنسانية والأخلاقية والروحية قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، يتعرض المهاجرون وخصوصا من ذوي الأصول الإفريقية منذ سنوات بعيدة الأمد إلى ظاهرة رفض وإقصاء جماعية من قبل العديد من القوى والشرائح السياسية والاجتماعية والاقتصادية بسبب الاعتقاد السائد بأن جميع الأجانب، أو ما يحلو للبعض تسميتهم بـ «الأجسام الغريبة في المجتمع» هم سبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة والخطيرة التي تتعرض لها فرنسا، وتثقل كاهلها الاقتصادي وتقوض مشروعاتها التنموية.
ولذلك أصبحت اليوم مشروعات الهجرة واللجوء السياسي محور رحى لنضالات الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، على اختلاف توجهاتها الوطنية والقومية التي تسعى بشكل محموم لاستقطاب المزيد من القواعد الشعبية المناهضة للأجانب ومن ثم الوصول بواسطتها إلى السلطة. وهذا ما هو ملاحظ عموما في جميع برامج الأحزاب اليمينية المتشددة والعنصرية على شاكلة حزب الجبهة الوطنية الذي تأسس في العام 1972 من القرن الماضي بقيادة جان ماري لوبن الرجل المتشدد القوي بمعاداة المهاجرين في فرنسا الذي ظل طوال تلك السنوات منذ التأسيس يصارع لتحقيق الوصول إلى السلطة ولكن من دون أية جدوى. وعلى رغم تلك الهزائم الساحقة والمتكررة التي تعرض لها في السباق إلى قصر الاليزيه بسبب توجهاته العنصرية والشوفينية التي أدت إلى سقوط «حلمه السياسي» بقي صامدا مخلصا للإرث الذي كونه وكرسه، من فكرة العداء للأجانب. يقول روبير شارفين الأستاذ في جامعة نيس – صوفيا انتبوليس – الفرنسية «إن تاريخ فرنسا كان دائما حافلا بالمخاوف الجماعية المتوالية التي تتذرع بالتهديد الكامن في إحدى الظواهر أو الجاليات المغتربة في فرنسا».
فمثلا، في العصور الوسطى، كان مرض الطاعون الذي انتشر بصورة واسعة في البلاد نسبته الكنيسة إلى اليهود، وحمّلتهم الذنب في ذلك فقامت سلطاتها بعزلهم في أحياء خاصة بهم بعيدا عن المجتمع، وقد شهد التاريخ الفرنسي مذابح كثيرة ضد اليهود في بعض المدن بتهمة أنهم ينقلون الأمراض المعدية ويتسببون في تفشيها.
وفي التاريخ المعاصر، يضيف شارفين، تمكنت حكومة فيشي (1940- 1944) من اختزال جميع مشاعر الخوف والعداء المتراكمة في تاريخ فرنسا بشكل بارع للغاية باستنباط جوهر الايديولوجية الرسمية التي وصفت بأنها «ثورة وطنية»، فكانت أولى هذه العناصر المكونة لها معاداتها للسامية لا لشيء إلا وفاء لكاثوليكية توسعية ومتطرفة، ولكن عداء للماسونية، وكراهية مفرطة للشيوعية وأنصارها، وكانت القوى الفرنسية التقليدية والمحافظة توجه أصابع الاتهام حينها لجاليات اعتبرتها «مسئولة عن هزيمة فرنسا» أمام النازية الألمانية، لأنها كانت تنخر في جسدها منذ وقت طويل، فاليهود في نظرهم أصبحوا يمثلون الطبقة الرأسمالية المضاربة مع الرأسمالية الوطنية، والماسونية، أصبحت سببا في انحطاط الشعب الفرنسي العظيم، وفي ذلك تضارب مع أصحاب الدعوة في استمرار النظام الملكي الأصيل، والشيوعيون أصبحوا يمثلون الأفكار المضطربة ويدعون الناس إلى الأممية وتحريضهم على تقاسم الثروة، وفي ذلك تضارب مع الوطنيين الذين يؤيدون الملكية الخاصة ويقدسونها.
واليوم، في ظل تنامي موجات الهجرة واللجوء وعجز فرنسا عن استيعاب العمالة الوافدة من شرق القارة الأوروبية يختلق قادة البلاد وأحزابها الأعذار والقصص الواهية من أجل تمرير المشاريع المعادية للأجانب، ففي الوقت الذي يطرح فيه العنصريون الفرنسيون شعاراتهم لطرد الأجانب وخصوصا الآسيويين والأفارقة السود، ويطالبون السلطات الفرنسية بترحيلهم إلى أوطانهم، تستمر هذه السلطات بوضع القيود والعراقيل المشددة بوجه أبناء الجاليات المغتربة في الحصول على المسكن اللائق والعمل والعيش المشترك وحرية الاحتجاج وطرح المطالب المشروعة، ويتعرض الكثيرون منهم لمحاولات عدوانية مختلفة تمارسها جماعات «الرؤوس الحليقة والنازيين الجدد» في وضح النهار في معظم الأحياء السكنية الفقيرة، المكتظة بالأقليات والعمالة الوافدة في فرنسا، على رغم كل ما يقال عن وجود التقاليد والأعراف والأنظمة التي تحميهم من مخاطر العنصرية، لأن ما كان يتجسد تحت السلطة الظاهرة للطبقة الحاكمة في فرنسا هو وجود أنظمة متعددة التوجهات والمصالح الداخلية والخارجية المناقضة بأشكال واضحة لقيم ومفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ويبقى السؤال المطروح الآن: هل سيبقى المهاجرون المغلوب على أمرهم اليوم في فرنسا سنوات طويلة من الزمن على هذه الحال، أم ستتعرف السلطات الفرنسية على معاناتهم وآلامهم جيدا، ومن ثم تدفع بهم لأن يصبحوا أعضاء فاعلين من ضمن «النسيج الاجتماعي والحضاري» لهذا البلد؟