إخفاقات أممية في مجالات حقوق الإنسان
حملت قضايا حقوق الإنسان، ولا تزال تحمل الشعار الأبرز، على مستوى النظم السياسية والاجتماعية في العالم منذ أقدم العصور، وحتى الآنَ، حيث صارت تتسابق جميع الدول، على إظهار اهتمامها وحرصها ورعايتها لحقوق الإنسان، وتكريسها في دساتيرها، والسعي الدؤوب لسن وإقرار القوانين والتشريعات، التي تتناسب عادة مع التطورات المحلية وعلى المستوى العالمي.
ففي العام 1215، أصدر البريطانيون، وثيقة الماغنا كرثا (العهد العظيم)، التي كانت تحرص على حماية حقوق الإنسان، والتي ظلت منذ ذلك الوقت، تمثل وثيقة الفخر والاعتزاز، بالنسبة إلى كلّ المواطنين في الأمبراطورية البريطانية، وفي العام 1776، قامت الولايات المتحدة الأميركية بعد الاستقلال، بإعلان الدستور، الذي أعتبرته الأمّة الأميركية، بمثابة النواة الأساسية لحقوق الإنسان، الذي يتوجّب على الجميع احترامها والتمسك بها، من أجل الحرية والوحدة والأمن والاستقرار في البلاد، وبعد قيام الثورة الفرنسية وانتصارها في العام 1789، أصدر الفرنسيون وثيقة (حقوق الانسان والمواطن)، الذي اعتبرها الشعب الفرنسي، في ذلك الوقت، الانطلاقة الأولى، نحو الرعاية الحقيقية لحقوق الإنسان، وطالبوا الحكومة الثورية بتكريسها وتعزيزها، في دستور الجمهورية العتيدة، وتمسك الروس في الاتحاد السوفيتي بمبادئ الثورة البلشفية (ثورة أكتوبر/ تشرين الأوّل 1917)، التي حرصت جيّدا على تطبيق مبدأ المساواة الاجتماعية، واحترام الحقوق الجماعية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، فكرستها في نظمها ودستورها.
وفي العام 1948، أصدرت دول العالم مجتمعة في الأمم المتحدة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بعد سنوات طويلة من الجهد والعمل الشاق، في سبيل خدمة البشرية، على أمل أنْ يحمي هذا الاعلان قضايا حقوق الانسان كافة، ويجعل العالم برمته واحة للامن والاستقرار والتعايش السلمي وجسر التفاعل الحضاري بين مختلف الشعوب والأمم.
ولكن على رغم مرور ستين عاما على صدور الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اختزل رغبات جميع الدول الموقعة عليه، لجهة اطلاق الحريات العامّة، ورفع الظلم والقهر والاستبداد وضيق العيش عن كاهل البشرية جمعاء، فإنه وللاْسف الشديد، لاتزال أوضاع حقوق الإنسان في غالبية دول العالم بما فيها الدول المتقدمة، تتعرض للمزيد من الانتهاكات والتشوهات، وتشهد تصاعدا مفرطا في انعدام العدل والمساواة وإفلات المجرمين بحق الإنسانية من العقاب، ولا يزال زعماء العالم كبارهم وصغارهم، الذين تعهدوا بتوفير الظروف الملائمة لتحسين أوضاع حقوق الإنسان في بلدانهم وفي العالم، وأكّدوا على التزامهم بالعهود والمواثيق الدولية، عاجزين عن الوفاء بما وعدوا به شعوبهم وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ففي تقريرها السنوي للعام 2008، حول (حالة حقوق الانسان في العالم)، كشفت منظمة العفو الدولية، عن انتهاكات فاضحة واخفاقات واسعة النطاق، حدثت في العالم، على صعيد حقوق الانسان، منذ عدة عقود، ولاسيما من جانب الدول التي تتفاخر بأنظمتها الدستورية، وبأحترامها وتقديرها لحقوق الانسان، ونشر قيم الحرية والديمقراطية على المستوى العالمي، مثل الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي.
وقالت المنظمة، إنه قد مضى ستين عاما على اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قبل الامم المتحدة، وعلى رغم استمرار المطالبة من الناس بضرورة اطلاق الحريات العامّة المدنية والديمقراطية والمساواة والعدل وإحلال الأمن والسلم والاستقرار في ربوع العالم، إلا أنّ أوضاع حقوق الإنسان مازالت معرّضة لمخاطرعديدة، حيث يواجه الناس المزيد من أنواع التمييز العرقي والاثني والطائفي والمذهبي، ومن سوء المعاملة وصنوف التعذيب وخنق الحريات ونقص الرعاية الاجتماعية والمحاكمات الجائرة مع التصعيد المستمر لأعمال العنف والقتل وحتى الابادة الجماعية، في ما لا يقل عن81 دولة، ويواجهون المحاكمات في أكثر من 54 بلدا على الأقل، وغير مسموح لهم بحرية التعبير في 77 بلدا تقريبا.
وقد جاء على لسان الأمينة العامّة لمنظمة العفو الدولية، أيرين خان التى تحدّثت بمرارة عن تدهور أوضاع حقوق الإنسان في مناطق متعددة من العالم، ولاسيما تلك التي تشهد توترات خطيرة، والتي حملت زعماء العالم مسئولية الإخفاق في حماية حقوق الإنسان على مدى ستة عقود من الزمن، وطالبتهم بتقديم الاعتذار عن ذلك، وإعادة الزام أنفسهم بتحقيق إصلاحات جديدة وملموسة ومميزة في هذا المجال (أن هناك مناطق في العالم اليوم حبلى بالأحداث وهي تمر الآن بمخاضات شاقة وعسيرة، بسبب التدهور المستمر في مجالات حقوق الإنسان، وإنّ تأخر القادة السياسيين وزعماء العالم، عن المباشرة بوضع الحلول الناجعة والكفيلة بدرء تلك المخاطر، فإن ذلك من شأنه أن يعرض العالم برمته الى تطاحن وحروب وكوارث مميتة، وتضيف الامينة العامة للمنظمة الدولية، انه منذ العام 2007، اتسمت أوضاع حقوق الإنسان، في مناطق حساسة من العالم مثل دارفور وزيمبابوي والعراق وأفغانستان وقطاع غزّة وميانمار، بأحداث مقلقة وخطيرة للغاية، ولكنه على رغم المصائب الكبيرة التي يتعرض لها الناس بالخصوص في هذه المناطق، فان حكومات الدول الغربية ومواقف الدول الناشئة المتصلبة والممانعة لم تحاول التصدي لبعض الأزمات الكبيرة والمعقدة في سبيل انقاد أرواح ملايين الناس.
وكنتيجة لاستمرار تدهور اوضاع حقوق الانسان على مساحة الكرة الأرضية وعدم مبالاة المجتمع الدولي بعواقبها، حذرت الامينة العامة للامم المتحدة، أيرين خان، قادة الدول، من خطورة الوضع العالمي بالنسبة لحقوق الانسان، ودعتهم الى تغليب منطق العقل على الأمور كافة الأخرى، وعدم التقاعس عن التصرف الجاد لمعالجة الأزمة الدولية، والذي قد يترتب على اهمالها وتجاهلها، دفع ثمن باهض في حياة الناس ومستقبلهم في مناطق مختلفة من العالم، ثم طالبت هؤلاء القادة بـ «التحلي بالرؤية والشجاعة والالتزام التام بالمقررات والعهود والمواثيق والتشريعات المكرسة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان»، مضيفة أنّ «العام 2008، قد يتيح للقادة الجدد الذين وصلوا الى السلطة عبر صناديق الاقتراع والدول التي برزت حديثا على المسرح الدولي الفرصة المؤاتية والضرورية لرفض السياسات البالية والممارسات ذات النظرة القصيرة المدى، التي انتهجها البعض خلال السنوات الأخيرة، في مجالات حقوق الإنسان، وجعلت العالم مكانا أشد خطورة وأكثر انقساما، والعمل الجاد والمثمر من أجل جعل العالم واحة أمن وسلام واستقرار وتعايش سلمي بين الشعوب والدول كافة، تحت قيادة جماعية دولية واحدة، تستند في نظرتها الراهنة والاستراتيجية، الى المبادئ الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الانسان»، وحثت بصورة اوضح الدول الاقوى في العالم، على ممارسة هذا الدور، وأنْ تسعى لكي تشكل «القدوة النمودج الامثل لغيرها من الدول، وذلك من أجل صياغة نظام عالمي جديد، يقوم على احترام قيم ومبادئ الحرية والديمقراطية والحكم الدستوري والسلم العالمي وحقوق الإنسان».
ولكن على رغم من كلّ المناشدات والمساعي الحميدة المبذولة على الدوام من قبل الكثير من المنظمات الديمقراطية والانسانية والحقوقية الدولية، والمطالب المتزايدة من الناس أيضا، فإنه في جميع البلدان، وباسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ترتكب هناك أخطاء كثيرة فادحة ومدمرة، وممارسات تعذيب وقتل وتهجير الأبرياء وخنق الحريات، تقشعر لها أبدان الناس، وتحاول أن تقضي على كل بارقة أمل بتطور ديمقراطي جوهري وحقيقي.