الهند… وقيم المهاتما غاندي
تحيي الهند رسميا وشعبيا اليوم (15 أغسطس/ آب 2008) الذكرى السنوية ليوم الاستقلال عن الاستعمار البريطاني في العام 1947، والذي استمر طوال 300 سنة مستبدا بأهلها ومستنزفا الكثير من خاماتها الأولية ومواردها الاقتصادية الحيوية وغيرها.
الاحتفال بذكرى الاستقلال هذه السنة، ربما لم يكن مناسبة مفرحة كثيرا لمعظم المواطنين الهنود، والسبب على حد أعتقاد بعض المراقبين، هو زيادة حدة الهموم الاجتماعية وتدهور الاوضاع الاقتصادية نتيجة تصاعد موجات غلاء المعيشة وارتفاع نسب البطالة واشتداد الفقر لدى غالبية أفراد المجتمع، وتفشي مظاهر الجريمة في الكثير من ولايات ومناطق الهند، تلك الدولة الكبيرة والشاسعة التي تعتبر ثاني أكبر بلدان العالم من حيث تعداد السكان، إذ يزيد سكانها على المليار ومئة مليون نسمة، وسابع أكبر دولة في العالم من حيث المساحة (302 مليون كيلو متر مربع، وطول حدودها البرية 15,000 كيلو متر، وطول حدودها البحرية 7700 كيلو متر، مع وجود قرابة 600 جزيرة تقع في مياهها الإقليمية، كما أنها تتميز بعمق تاريخي حضاري بعيد المدى ممتد طوال 5000 سنة من الزمن، وتنوع عرقي وطبقي وطائفي وعقائدي تميزت بة التركيبة الاثنية للمجتمع عكست بدورها صورة النجاح الكبير للبلاد في تثبيت مرتكزات النظام الديمقراطي الدستوري التعددي.
وإضافة إلى المعاناة المعيشية اليومية الصارخة التي أخدت ترهق كاهل المواطن في الهند، فإن هذا المواطن صار يشعر بالضيق من فقدان الكثير من القيم الإنسانية والروحية والأخلاقية الذي ناضل من أجل تكريسها وتعزيزها المهاتما غاندي (مهنداس كارما شاند غاندي) الأب الروحي للهند والملقب بـ (صاحب النفس العظيمة أو القديس) الذي قاد تحرير البلاد من الاستعمار البريطاني بوسائل السلم الحضارية وليس بواسطة العنف، فكان أكبر داعية للتسامح والاخاء والمحبة وللوحدة بين الهندوس والمسلمين وتوطيد الاستقلال الوطني وطموحات التقدم الاجتماعي والاقتصادي في شبه القارة الهندية، قبل أن يسقط صريعا برصاصات رجل معتوه من الطائفة الهندوسية شديد التعصب والحقد في العام 1948، وذلك بعد مرور خمسة شهور فقط من الاستقلال.
يقول معظم الهنود، إن الكثير من قيم الإخاء والتسامح والعفة والشفافية والتعاون والسلم، الذي حاول المهاتما غاندي غرسها في نفوسهم وقلوبهم وعقولهم، وكانت سائدة في المجتمع الهندي على مدى سنوات بعيدة، أخدت تختفي وراء المتاعب اليومية الكثيرة المضنية، والبحث عن لقمة العيش واشتداد وطأة العولمة وأقتصاديات السوق التي مابرحت تسعى وراء الحد الأعلى من الكفاءة الاقتصادية العالمية
ويقولون أيضا، إن الشعارات الإنسانية والروحية الكبيرة التي رفعها وظل ينادي بها المهاتما غاندي من أجل السلم ونبذ العنف والتعصب والكراهية، والتي الهمت بدورها قادة كبار من أمثال المناضل الكبير نيلسون مانديلا الذي قاد مقاومة سلمية منزوعة السلاح ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حصل بعدها المواطنون السود على حقوقهم، وأصبحوا هم أنفسهم قادة البلاد في العام 1994، والدالاي لاما، زعيم اقليم التبت الذي لايزال يناضل بوسائل السلم من أجل استقلال الإقليم عن الهيمنة الصينية، وكذلك تأتي في مثل هذا السياق ثورة الإمام الخميني الجبارة، التي أسقطت دكتاتورية نظام الامبراطورية البهلوية في إيران بالوسائل السلمية، والثورات المخملية التي أطاحت بعروش الأنظمة الشمولية الشيوعية في شرق القارة الأوروبية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، أصبحت اليوم في الهند معرضة لمخاطر كبيرة أو هي ماضية في مهب الرياح، فالأمن والاستقرار والسلم الأهلي الذي كان ينادي به ويطمح إليه المهاتما غاندي، لأجل حماية الدولة والمجتمع، صار يتخبط بالمشاحنات والمنازعات والصراعات الاثنية والمذهبية والطائفية التي ارتفعت عقيرتها خلال السنوات الأخيرة، والاقتصاد الوطني الذي كان يؤمل أن يوفر العيش الرغيد أو المقبول لجميع المواطنين والقضاء على الفقر، بددته مظاهر انعدام العدالة الاجتماعية والتبذير في موارد الثروة الوطنية، وأساليب التقشف وبساطة العيش الذي كان المهاتما غاندي يؤمن بها تبددت هي الأخرى بفعل التوسع الهائل في الاستهلاك المعيشي اليومي واهتمام غالبية الناس بالكثير من مباهج ومظاهر الحياة الدنيا.
وكان المهاتما غاندي، يحلم بمجتمع تتوافر فيه كل فرص العمل لكل مواطن في الهند، ولكن تزايد عدد السكان وتعميق الهوة بين الفقراء والأغنياء في البلاد، دفعت ملايين المواطنين الهنود إلى الهجرة في مختلف العواصم العالمية لأجل العمل و البحث عن لقمة العيش ويتعرض بعض هؤلاء المهاجرين إلى أعمال قاسية في عمليات الاتجار بالبشر، وكان يدعوا إلى توزيع ثروات البلاد بالتساوي، وعدم استغلالها لمآرب شخصية أوسياسية أو حزبية معينة، فلم يحدث أن تورط المهاتما غاندي، طوال حياته الاجتماعية والسياسية في أية فضائح فساد، بينما يغرق اليوم الكثير من المسئولين الهنود في مختلف مؤسسات الدولة الرسمية والأهلية، في فضائح فساد واستغلال المناصب القيادية في الدولة والمجتمع لأهداف اجتماعية واقتصادية خاصة، سيق ببعضهم على إثرها إلى الحاكم، وكان المهاتما غاندي، يردد أقواله الماثورة دائما، التي طال ما اعتبرها مظهرا من مظاهر الإيمان والعمل والنضال (أن الدين ومكارم الأخلاق هما شيء واحد لاينفصلان ولايفترقان عن بعضهما البعض)، و(تعلمت من الإمام الحسين كيف أكون مظلوما فانتصر) ولكن مثل هذه الأقوال الإيمانية الشامخة، أصبحت اليوم مجرد أمور عابرة، خصوصا عندما استكانت همم الناس إلى كثرة الظروف الضاغطة القاسية في الحياة واستجاب بعضها للواقع العالمي الجديد، الذي يريد بكل إصرار أن يمارس القهر على المجتمعات الفقيرة ويفرض قيمه على الآخرين.
وفي نظرة إلى المستقبل، فإنه على رغم من وجود العوامل الكثيرة التي حاولت أن تضعف قيم المهاتما غاندي في الهند، سيظل الأمل معقودا على بقاء واستمرار كل هذه القيم، التي رغب المهاتما غاندي في استثمارها إلى أبعد مدى كما عبر عن ذلك أحد الناشطين الحقوقيين راسخة ومكرسة، في شعارات وبرامج وعمل كل المنظمات الوطنية والدولية الداعية إلى السلم والمدافعة عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ليس فقط في الهند وحدها، إنما في العالم برمته.