عام على الاحتلال النازي الألماني للدنمارك والخوف ما زال هو سيد الموقف لإحياء الذكرى هذه السنة وثيقة الاستسلام الملكية، ودور الشيوعيين الدنماركيين، ومجلس الحرية في مواجهة الاحتلال
مرت في يوم الخميس 9 نيسان/ أبريل 2020، الذكرى 80 عاما، على الإحتلال النازي الألماني للدنمارك، ولم يحتفل الدنماركيون، كعادتهم في كل عام، بتلك الذكرى الوطنية القاسية والمؤلمة، في هذا العام 2020، وذلك بسبب انشغال الحكومة والمجتمع، بتبعات أزمة فيروس كورونا، ألتي انهكت حياة الجميع، والتي وصفها البعض، بأنها كارثة وطنية، لا تقل مستوى عن الكارثة الرهيبة، التي تسبب بها الإحتلال النازي الألماني للدنمارك، التي استطاعت أن تبعث الخوف والقلق، في نفوس الناس، ودمرت الحرث والزرع، وأحلام المستقبل السعيد والمتقدم والمزدهر.
في فجر يوم الخميس، 9 نيسان/ أبريل 1940، استيقظ الشعب الدنماركي، على غزو جحافل الجيش الألماني النازي، للأراضي الدنماركية، بقوة عسكرية ضاربة، قوامها 40 الف جندي ألماني، تعبر الحدود الجنوبية الفاصلة بين المانيا والدنمارك، وتفتح نيران مدافع أسلحتها الرشاشة ومدافع الهاون والصواريخ والطائرات الحربية والبوارج البحرية، على قوات الحدود وأفراد الجيش الدنماركي، البالغ عددهم حينذاك، قرابة 2500 حارس حدود وجندي، وعدد ضئيل من المقاومين المدنيبن، كان جميعهم في حالة تأهب قصوى، للدفاع عن حياض الوطن.
وخلال معركة الدفاع الضروس، التي استمرت فقط ساعتين من الوقت، قتلت القوات النازية الغازية، قرابة 16 جندي دنماركي، وأصيب أكثر من 23 آخرين، من بينهم عدد من ثوار الحركة الشعبية المقاومة، التي كانت تتصدرها أفواج الشبيبة الشيوعية، واليسارية الليبرالية والراديكالية، وأهالي القرى الحدودية، التي تضامنت مع بعضها البعض لصد الهجوم المباغت في الساعات الأولى من فجر ذلك اليوم المشؤوم.
وخلال معارك الفر والكر بين الأطراف المتقاتلة، أرسلت قيادة القوات الألمانية الغازية، إلى الحكومة المركزية الدنماركية، اندارا شديد اللهجة، يطالبها بالاستسلام الفوري، من دون شروط أو قيد، أو مواجهة القمع الواسع والمطلق الرهيب، وبعد أقل من ساعتين، على توجيه هذا الإنذار، استسلمت الدنمارك، بناء على اوامر صادرة، من الملك كريستيان العاشر، والحكومة والجيش والكنيسة الدنماركية، الذين رؤوا بأن ميزان القوى العسكرية، ليس في صالح الدنمارك، وعليها ان تستجبب لهذا الانذار، وعندها توقفت عمليات المواجهة العسكرية، من الجانب الدنماركي، وفي هذا التوقيت بالضبط، توغلت القوات العسكرية النازية، داخل عمق الأراضي الدنماركية، وصولا إلى قلب العاصمة كوبنهاجن، ومنذ ذلك الوقت، استمرت عملية الاحتلال النازي للدنمارك، طوال خمس سنوات متتالية، إلى فترة ما قبل سقوط النازية الألمانية، واستسلام الرايخ الثالث الألماني، في 5 أيار/ مايو 1945، أمام جيوش الحلفاء، ألتي اجتازت عساكرها المدججة بالعتاد والسلاح، عمق الأراضي الألمانية واحكمت قبضتها الفولاذية الكاملة، على عاصمة الرايخ الثالث النازي، برلين، وانتحار الدكتاتور ادلف هتلر، وعشيقته إيفا براون، في أحد الملاجىء المحصنة داخل العاصمة، والإعلان عن الموت النهائي للامبراطورية النازية الألمانيةالشعبوية المتغطرسة والجبارة.
الشيوعيين، والاشتراكيين الديمقراطيين، ومجلس الحرية الدنماركي، في طليعة المقاومين للاحتلال:
كانت فترة الاحتلال الألماني النازي، واحدة من مآسي، الدنمارك الكثيرة، وربما كانت هي أصعب واحلك فترة تاريخية، عاشها المجتمع الدنماركي، في ذلك الوقت، واثقلت كاهله، واضعفت قوة جبهته الداخلية، ففي تلك الفترة، كان الدنماركيون منقسمون، إلى جبهتين، الأولى متعاونة مع سلطة الإحتلال، وتدافع عنها، وفي مقدمتها الحكومة المستسلمة، وقوى البرجوازية المتعددة، التي ربطتها مصالح إقتصادية وتجارية، مع الإمبراطورية الألمانية، والثانية، جبهة الرفض الشعبية، التي ناضلت وستبسلت بشراسة، من أجل دحر الإحتلال النازي الألماني للدنمارك، والاستقلال، وكانت في طليعتها شبيبة اليسار الدنماركي بجميع احزابه وتياراته وطلائعه الوطنية المستقلة، بالإضافة إلي اعداد كبيرة من السكان العاديين، وفي هذه الفترة بالذات، أصبح وضع البلاد الاجتماعي والأمني، على كف عفريت، وعندها دعا الملك كريستيان العاشر، الشعب الدنماركي، إلى التضامن، واتخاذ الموقف الصحيح والهادىء في ظل الظروف الجديدة الناشئة عن الاحتلال، ولكن دعوته لم تلقى الاستجابة الشديدة، من قبل الغالبية الشعبية، التي رفضت الذل والهوان، في ظل استباحة الأرض والإنسان في الدنمارك، وبصفتها أحزاب يسارية، نشأت وتربت وترعرعت على العقيدة الوطنية والاشتراكية والاممية، المدافعة عن السيادة الوطنية والاستقلال، ومساعدة الطبقات الاجتماعية الضعيفة والفقيرة، أخذت كل هذه الأحزاب زمام المبادرة في قيادة النضال الوطني، من أجل الاستقلال والحرية، وكان في طليعة تلك الأحزاب الحزب الشيوعي الدنماركي ( DKP ) والاشتراكيون الديمقراطيون، واوساط الطبقة العمالية والفلاحية، الذين افقرتهم قوانين العسف العام والاضطهاد السياسي والاقتصادي، وشارك جميعهم في جبهة وطنية واحدة وموحدة، ضد الحكومة الدنماركية المتخاذلة، وسلطة الاحتلال الألمانية القاهرة والمغتصبة للارض والكيان السياسي.
نضال مستمر وتضحيات كثيرة:
وبعد اشتداد وتيرة النضال الوطني، ضد المحتل، وعجز حكومةالدنماركية بزعامة رئيس الوزراء اليميني آنذاك، سكا فينوس وبست، عن ردع الحركة الثورية المشتركة، ضد المحتلين الألمان، تقدمت الحكومة الدنماركية، إلى البرلمان الدنماركي، بمشروع قانون، يحظر النشاط الشيوعي في الدنمارك، ومحاربة الشيوعية، تحت عنوان ” القانون الشيوعي” وبعد موافقة البرلمان، على هذا القانون، قامت السلطات الأمنية الدنماركية، بحملات قمع تعسفي واسعة النطاق، ضد قيادات وكوادر وقواعد الأحزاب اليسارية، شملت أيضا ثلاثة برلمانيين من الحزب الشيوعي الدنماركي، الأمر الذى قد اعتبره العديد من البرلمانيين الدنماركيين، انتهاكا فاضحا للحصانة البرلمانية والدستور.
وفي 22 حزيران/ يونيو 1943، طلبت سلطة الإحتلال، من الحكومة الدنماركية، تضييق الخناق بقوة على الشيوعيين الدنماركيين، واعتقال قادتهم البارزين، ووافقت الحكومة الدنماركية، على هذا المطلب، من دون أي تردد، أو مجاذلة، وفي اليوم التالي من الموافقة على الطلب، قامت الشرطة الدنماركية بحملة اعتقالات واسعة النطاق في صفوف القادة الشيوعيين، والقواعد الشعبية الشيوعية، طالت حوالي خمسة اضعاف من هؤولاء، ونشرت السلطات الدنماركية، أسماء قرابة 336 شخص، تم إطلاق سراح بعضهم في وقت لاحق، ولكن موجة الاعتقالات الثانية بلغت ذروتها، عندما كشفت السلطات الأمنية الدنماركية، وجود خلايا سرية شيوعية، تطوعت للقتال مع الشيوعيين الامميين، في إسبانيا، ضد حكم الدكتاتور الإسباني، فرانشيسكو فرانكو، الفاشي، حيث القت هذه السلطات القبض على أكثر من 246، شيوعيا، ودفعت بهم إلى غياهب سجن ” هوى سرود ” الحصين، ومارست ضدهم مختلف صنوف العذاب.
وفي خريف العام 1943، أرسلت الحكومة قرابة 150 ثائرا شيوعيا، إلى معسكرات الإعتقال النازية، في بولندا، حيث قضى جميعهم نحبه هناك.
الشيوعيون الدنماركيون يعملون من تحت الأرض:
وبعد توسع حملات الإعتقال التعسفي المنظمة والممنهجة، ضد الشيوعيين وقواعدهم وانصارهم في الدنمارك، لجأ كل هؤولاء للعمل السري من تحت الأرض، وعملوا على تنظيم سلاسل متواصلة ومنسقة لتنظيم التظاهرات والاضرابات والاحتجاجات، وقاموا بعمليات مباغتة ضد القوات الحكومية الموالية لسلطة الاحتلال، وقوات الاحتلال نفسها، ومن ضمنها إشعال الحريق في سيارات ومركبات جيش الاحتلال، وإضرام النيران في مبان ومقار تستخدمها سلطة الإحتلال لإدارة شؤون البلاد، وذلك في جميع المدن الكبرى في الدنمارك.
وفي خلال تلك الفترة، دمر الشيوعيون الدنماركيون، قطعتين من القوارب السريعة الألمانية، وحاولوا أن يدمروا طريق السكك الحديد، من أجل قطع الطريق على القوات النازية، من نقل مؤنها وامداداتها العسكرية، الأمر الذي أزعج سلطة الإحتلال، وقامت بنشر اعداد هائلة من الجنود لقمع ما اطلقت عليه ” بالأعمال الانتقامية الإرهابية ” التي تمارسها حركة المقاومة الوطنية الدنماركية، كما قامت أيضا بإصدار قانون جديد، يوسع من حملات القمع والاستبداد المطلق، والاعتقالات المكثفة، ضد المقاومين، وشمل هذا القانون، حكم الإعدام على ما وصفته ” بعمليات التخريب الشعبي ” المنظم وغير المنظم.
وعلى الرغم من إعلان هذا القانون، واصلت جميع قوى اليسار الدنماركي، بقيادة الحزب الشيوعي، ومجلس الحرية الدنماركي، نضالاتها المستميتة، وقادت مجموعة الشبيبة الشيوعية، بقيادة الحزب الشيوعي الدنماركي، التي تم تاسيسها في العام 1942، من خلال طلاب الحزب الجامعيين، في جامعة كوبنهاجن، والتي اعتبرت في مابعد بمثابة مجموعة مقاومة رئيسية في البلاد، معظم التحركات النضالية الوطنية ضد المحتل، واعلنت في بيان: ” إنها تفضل الموت، على إستمرار بقاء الإحتلال في البلاد ” وأنها لن تتنازل عن حقها في الدفاع سيادة الدولة، وحماية المجتمع الدنماركي برمته.
انتفاضة أب/ أغسطس 1943:
وعلى امتداد عام كامل من الزمن ” 1943 ” كانت هناك مقاومة شرسة للمناضلين اليساريين وقواعدهم وانصارهم، ضد الألمان، ولكن في مطلع شهر آب/ أغسطس 1943، تفجرت أكبر انتفاضة ثورية شعبية، زلزلت أركان الحكم والقوة الألمانية المحتلة، كان في صدارتها الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين، واليساريين الليبراليين والراديكاليين، وتضمنت، سلسلة واسعة النطاق، من الإضرابات العامة، والتظاهرات الجماهيرية الحاشدة، واعمال المقاومة المشروعة، في عموم مدن ومناطق الدنمارك، وكانت قوة وعنفوان هذه الإنتفاضة الرهيبة، عاملا حاسما في سقوط حكومة سكا فينوس، البرجوازية اليمينية، الخاضعة للاحتلال، وقد أثارت ارتجاجات هذه الإنتفاضة هزة صاعقة ومدوية، لمشروع سياسة التعاون المشترك، الدنماركي _ الألماني، وقد تعمقت وتوسعت جذور ومرتكزات، هذه الإنتفاضة الثورية في الداخل الدنماركي، بعد حدوث الهزائم العسكرية والمعنوية، لجيوش النازية والفاشية، في روسيا، ومجمل المناطق الخاضعة لامبراطورية، الأتحاد السوفياتي، وبلدان القارة الأفريقية، والسقوط النهائي الرهيب لإيطاليا الفاشية، حيث احدث هذا الفشل والسقوط، فائدة مامولة ومطلوبة للشعب الدنماركي، الحاقد على سياسات النازية الهتلرية، والفاشية البينتوية الموسلولنية، الإيطالية، الذي وجد بعدها الضالة في وحدته الوطنية الواحدة والموحدة.
وبناءا على كل هذه الضروف الذاتية والموضوعية، تضامن الشعب الدنماركي، في غالبيته الساحقة، مع المقاومة الوطنية.
و منذ تموز/ يوليو 1943، كانت هناك معارك كر وفر، ومقاومات يومية مستميتة، بين مختلف القوى السياسية اليسارية والشعبية، وقوات الاحتلال النازي، وفي هذه الفترة، أضرب العمال الدنماركيين، العاملين في حوض بناء السفن، في مدينة البورغ، احتجاجا على نشر سلطة الإحتلال النازي، حراسات مشددة، على ثلاثة الآلاف عامل دنماركي، يعملون في تلك الأحواض، وارغم إصرارهم على الإضراب، سلطة الإحتلال، إلى الرضوخ وتنفيد كامل شروطهم المطلبية.
وفي 9 آب/ أغسطس، من نفس العام، أعتصم عمال صناعة الحديد والصلب، الدنماركيين، في إضراب عام، احتجاجا على قانون حظر التجوال، وللمرة الثانية، رضخت سلطة الإحتلال، إلى هذا المطلب العمالي، واضطرت الى الإعلان عن فك الحظر المفروض.
ولكن على الرغم من ذلك، استمرت مطالب المقاومة الوطنية، تحث الخطى، حيث شهدت شوارع مدينة اودنسة، في 18 اب/ أغسطس، قتال شرس، وحرب شوارع، خاضتها المقاومة الدنماركية، ضد قوات الاحتلال النازي، وأغلقت على إثر تلك التطورات، جميع المحال التجارية، وشلت كافة التحركات المجتمعية في المدينة، ومن بعد ذلك جاء الدور على المدن الاخرى الكبرى، التي شهدت فيها على التوالي، حروب شوارع ضروس، بين المقاومة، وقوات الاحتلال النازي.
وفي 29 آب/ أغسطس 1943، اعلنت سلطة الإحتلال النازي، حالة الطوارئ العسكرية، من أجل الحيلولة من دون توسع، مسيرة الاحتجاجات الثورية المستمرة، ولكن الأمور بقيت مراوحة في مكانها من دون أي تغير، وقادت جماهير اليسار الدنماركي بقيادة الحزب الشيوعي، المراحل النضالية الأخرى، التي تلت هذه المرحلة.
وفي 28 آذار/ أغسطس 1943، اوعزت سلطة الإحتلال النازي، الى الحكومة الدنماركية، القيام بالإعلان على الفور، عن قانون طوارىء جديد، في جميع أنحاء الدنمارك، والذي شمل بموجبه، حظر التجوال، في جميع أراضي البلاد، وحظر التجمعات والاجتماعات، والتجوال، والرقابة المشددة على جميع وسائل الاعلام المحلية، وعقوبات السجن، والاعدام الفوري، لكل من يخالف تلك الأوامر.
وفي 16 أيلول/ سبتمبر 1943، اتحدت جميع قوى المقاومة الوطنية الدنماركية، في كيان المجلس المشترك لحركة المقاومة الوطنية، وكان الحزب الشيوعي الدنماركي، والاشتراكيين الديمقراطيين، في طليعة هذا الحراك، وأصبحت، الدنمارك، هي الدولة الوحيدة على نطاق أوروبا تمتلك حركة مقاومة مركزية، من أجل دحر الإحتلال النازي الألماني، وفي هذا المجال، لعبت الجريدة الوطنية الأولى ” الأرض والناس ” التي أسسها الشيوعيون الدنماركيون، في العام 1941، لمواجهة الاحتلال، دورا بارزا في توعية المجتمع الدنماركي، وتثقيفه، واعداده وتاهيله للمواجهة مع المحتلين الألمان، وضرورة دحر قواتهم من البلاد، واستعادة السيادة الوطنية، والاستقلال، ونشر الحرية والديمقراطية والسلم الاجتماعي، وتطوير وتاطير التنمية البشرية والاقتصادية، والنهوض بمستقبل الدنمارك، المشرق والمزدهر.
هاني الريس
12 نيسان/ أبريل 2020