علي أحمد الجزيري… شهيد الحرية
كنود هولمبو، مناضل دنماركي عنيد، قادته مسيرة النضال من أجل الحرية والكرامة الانسانية، إلى الاغتراب عن بلده، والمشاركة في حركة التحرر العربية إبان حقبة الاستعمار، من بوابة المقاومة الوطنية الليبية ضد الاحتلال الايطالي، الذي قادها أسد الصحراء الشهيد عمر المختار.
وعلى قدر ما كانت تضحيات كنود هولمبو، مفخرة لكل العرب ولاسيما الليبيين، إلا أن قلة قليلة من الدنماركيين، يعرفون سيرة حياة هذا الرجل النضالية الثورية، والذي صار يشار له بالبنان في صفوف المقاومة الوطنية الليبية، وقد كرمته الثورة بتخليد اسمه لكل الاجيال عبر قيامها بتشييد تمثال له في المتحف الوطني في ليبيا.
ولد كنود فالديمار هولمبو، في مدينة هورسنس الدنماركية في (22 أبريل/ نيسان 1902) وهو الابن الأكبر لعائلة تعمل في التجارة، ومنذ نعومة أظفاره، كان شديد الاهتمام بالدراسة، وشغوفا بالفلسفة وعلم الاديان، وبعد نهاية تعليمه مارس مهنة الصحافة في عدد من المجلات والصحف الدنماركية كاتبا ومراسلا، وعندما بلغ العشرين من العمر، توجه نحو التعمق في الدين، واعتنق الكاثولوكية، ثم غادر بعد ذلك الدنمارك ليمارس طقوس هذه الديانة في دير كليرفو في ربوع فرنسا.
وفي العام 1924، وبعد أن ضاق ذرعا بطقوس الكنيسة، قرر كنود هولمبو، أن يسافر الى المغرب العربي لولوج عالم آخر في حياته وليكسب المزيد من معرفة أصول الدين والحياة. وهناك أصبح على أيدي رجال الدين المسلمين المغاربة، مسلما، إذ تراكمت لديه معرفة واسعة بتعاليم الإسلام وأصول الشريعة، وقد التقى بأحد مشايخ الدين في مسجد صغير بقرية مغربية، ومن خلال المناقشة والحوار استطاع شيخ المسجد أن يقنع كنود بالتقرب لدين الاسلام، والذي لم يلبث أن اعتنقه بعد ذلك بعام واحد فقط. أسلم بشكل رسمي وصار واحدا من مسلمي الدنمارك الاوائل واصبح اسمه بعد ذلك (علي أحمد الجزيري).
وفي المغرب، أصدر كتابه الاول بعنوان (قصائد) الذي تناول فيه موضوعات شتى حول الحياة والموت وطقوس العقيدة ودروب الصحراء، وبعده بوقت قصير أصدر كتابه الثاني الدي تناول فيه إقامته في المغرب بعنوان (الشيطان والبحر العميق – اندفاع بطائرة الى المغرب).
أظهر كنود هولمبو، من خلال رسائله الشخصية اهتماما كبيرا بالإسلام، وكتب في إحدى رسائله (ان الحياة المادية في اوروبا فقدت روحانيتها وهي تدمر القدرة على تقدير الحياة الجميلة، لن أقول إن الحياة الحديثة في الشرق هي الأفضل، فالرجل الشرقي أيضا تأثر بالحضارة التي تفسد الحياة الروحية والأخلاقية).
كانت التجارب التي خاضها كنود هولمبو، مع الحضارة الغربية وحروبها الاستعمارية في الشرق، سببا من أسباب اهتمامه بالكتابة والمراسلة الصحافية، وخصوصا حول قضايا النضال والتحرر، ففي العام 1925، سافر إلى سورية والأردن وفلسطين والعراق بهدف تغطية الاحداث الجارية في تلك الاقطار الى الصحف الدنماركية والبريطانية، ثم سافر بعدها الى إيران. وفي العام 1927، تابع مهمته الصحافية في ربوع البلقان، وهناك واجه بعض التحديات السياسية والأمنية، فعندما التقط صورة لبعض جنود الدكتاتور الايطالي موسوليني، وهم يعدمون قسيسا كان انتقد النظام في البانيا، تسابقت على نشرها مختلف وسائل الاعلام الدولية، عرضته تلك الصورة للكثير من الملاحقات الأمنية من جانب المخابرات الايطالية. لكن تلك الصورة جعلت منه مراسلا مرموقا يحظى باهتمام الصحف العالمية التي حاولت توظيفه لتغطية الاحداث في مختلف مناطق التوتر في العالم.
وبعد عودته الى الدنمارك العام 1928، عمل كنود هولمبو، رئيسا لتحرير صحيفة محلية، ولكن نظرا لصعوبة أوضاعه المالية، اضطر الى ترك وظيفته، وهاجر مع زوجته نورا وابنتهما عائشة الى المغرب.
وفي العام 1930، عبر كنود هولمبو، صحاري بلاد المغرب العربي بالسيارة، وكان الهدف هو التعرف على طبيعة المنطقة، الا أنه عندما وصل الأراضي الليبية التي كانت خاضعة في ذلك الوقت للاحتلال الايطالي، شاهد بالعين المجردة، حملات الإبادة التي تعرض لها الشعب الليبي على أيدي جنود موسوليني، وشملت ممارسة القمع والاعدامات العشوائية والتهجير القسري والتجويع واستخدام الغازات السامة القاتلة.
شاهد كل هذه الأساليب المروعة، التي مورست ضد الشعب الليبي المقهور، فتحركت مشاعره الانسانية، واندفع للانضمام إلى صفوف المقاومة الشعبية الليبية، بقيادة شيخ المجاهدين عمر المختار. طلبت منه الثورة تقديم المساعدة لإيصال صوتها الى العالم، إلا انه بعد فترة قصيرة، اكتشف الايطاليون أمره، فطاردوه واعتقلوه وأبقوه في السجن عدة أشهر قبل أن ينفوه تعسفا إلى القاهرة.
وفي مصر، صار كنود هولمبو، يعمل لصالح المقاومة الليبية، قام بتنظيم قافلة إغاثة تحمل مواد غذائية وأدوية وبعض الاسلحة الخفيفة لدعم المقاومة، ولكن بإيعاز من السفير الايطالي في القاهرة، تمت عملية اعتقال كنود هولمبو، واودع في السجون المصرية لمدة شهرين.
غادر الأراضي المصرية بعد اطلاق سراحه متوجها الى الدنمارك، حيث اصدر هناك كتابه الجديد، حول مشاهد الإبادة في ليبيا، وعن مجمل تجاربه في صحاري المغرب بعنوان «الصحراء تلتهب» وقد ذاع صيت هذا الكتاب وأصبح من أكثر الكتب تسويقا في مختلف دول العالم، خصوصا في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، ولكنه منع في ايطاليا.
وفي العام 1931، قام كنود هولمبو، برحلة برية إلى مكة المكرمة بقصد أداء مناسك الحج، وخلال مسارات الرحلة التقى بالكثير من المسئولين في حركات التحرر العربية وخاصة قادة المقاومة الليبية في كل من تركيا وسورية والأردن، ولأن الايطاليين كانوا يخشون نشاطاته وتحركاته لصالح المقاومة الليبية، حاولوا أن يقطعوا عليه طريق الوصول الى مكة المكرمة، ولكنهم فشلوا في تحقيق ذلك الهدف. وبعد عودته من مكة، أقام، في الأردن مدة طويلة، تعرض خلالها لملاحقات كثيرة وبعض محاولات الاغتيال من قبل أجهزة المخابرات الإيطالية.
وفي 11 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1931، غادر كنود هولمبو، الأراضي الأردنية على متن احدى جمال الصحراء متوجها صوب الحدود السعودية، وهناك اقترب من أحد مضارب قبيلة بدوية سعودية، ومن سوء طالعه، كانت هذة القبيلة تعمل لصالح الضباط الايطاليين المرابطين في المنطقة، فاستدرجه شيوخ القبيلة واشاروا عليه مواصلة الطريق بمفرده، وعندما قطع بعض المسافات تعرض لاعتداء غاشم من قبلهم، بين الحقل وحميدة، وخلال الليل تم أسره، ولكنه تخلص من قبضة البدو، وفر هاربا الى عمق البحر، وعندما أنهكته السباحة، كان عليه الاقتراب من الساحل، وهناك عثر عليه البدو مرة اخرى، فاطلقوا عليه النار وسقط صريعا، عن عمر لايتجاوز التاسعة والعشرين.
وبعد فترة من مقتله، نجحت سلطات الأمن في الحدود الأردنية بقيادة الضابط عارف سليم، في القاء القبض على شيخ قبيلة البدو، وأبقته في سجن العقبة للاستجواب، ولكن بعد بضع ساعات تم اطلاق سراحه، بأمر من قائد الجيش البريطاني في الأردن جون جلب، وبعد عدة شهور من ذلك قيل بأن جنودا موالين لعبدالعزيز بن سعود، تمكنوا من قتل أفراد القبيلة قاتلي كنود هولمبو، ونسف معسكراتهم.
وعند قيام الدولة السعودية في العام 1932، اختفت كافة الأدلة الجديرة بكشف ملابسات مقتل المناضل الدنماركي كنود هولمبو في الأراضي السعودية.
ومنذ ذلك الوقت، لم ينس الشعب الليبي، ما قدمه له كنود هولمبو، من تضحيات جسام في سبيل التحرير. ومنذ ذلك الوقت أيضا، لم يحصل الشعب الليبي من تعويضات حرب الإبادة التي تعرض لها طوال سنوات الاحتلال الرهيبة (1911 – 1949) سوى على حفنة قليلة من المال (5 مليارت دولار فقط) وصورة اعتذار رسمي عن حقبة الاستعمار، قدمتها ايطاليا مؤخرا الى الحكومة الليبية. أما جثمان كنود هولمبو فقد اختفى ولم يتم العثور عليه كي يوارى الثرى في أحضان بلاده الدنمارك حتى هذا اليوم