مهاجرون أمام السياج الحديد
نصحت وكالة الأمم المتحدة للسكان الدول الصناعية المتقدمة باستيعاب المزيد من المهاجرين من أجل المساعدة على تطوير البناء والتنمية، وتعويض النقص الحاصل في النسبة السكانية التي تحتاجها الدول الصناعية المتطورة في مختلف مناطق العالم وبخاصة في أوروبا الغربية وكوريا الجنوبية واليابان. إذ تشهد جميع هذه الدول انخفاضا متواليا في عدد المواليد، وتزايدا ملحوظا في مستويات الشيخوخة والعطالة عن العمل. ما يعني بحسب – تقارير الوكالة الأممية – تناقصا مستمرا في عدد الاشخاص القادرين على العمل الذين يساهم عملهم في دعم صناديق التقاعد التي تعيل تلك الاعداد الهائلة من المتقاعدين وتضمن لهم الحياة الكريمة، والا فإنها ستواجه تدهورا كبيرا في اقتصاداتها الوطنية.
تتزايد في الجانب الآخر من هذه القضية العالمية دعوات المطالبين بوقف تنامي الهجرة والعمالة الرخيصة الى أوروبا والدول الصناعية الأخرى على المستوى العالمي، وتقوم حكومات الغرب بتشديد الإجراءات الصارمة للحيلولة دون عبور المهاجرين وخاصة من يوصفون بغير الشرعيين الى حدود دولها التي طالما حلم بالوصول اليها العمال الفقراء في العالم.
وأشارت بعض تقارير الأمم المتحدة عن الهجرة الى أن قضية استيعاب المهاجرين والأيدي العاملة أصبحت من ضمن القضايا الضرورية والملحة للغاية في بعض الدول الصناعية الاوروبية مثل اسبانيا وايطاليا إذ أخذت تتسع فيهما حركة النشاط الصناعي، فيما يقابل ذلك التوسع الهائل في مجال التصنيع انخفاض ملموس في مستوى العمالة الوطنية بسبب التزايد المستمر في اعداد المتقاعدين لاسباب المرض او الشيخوخة.
وتقدر الوكالة الأممية ان دولة مثل اليابان تسجل فيها نسبة أقل عددا للمواليد ونسبة أكبر للمعمرين، تحتاج الى قرابة عشرة أو خمسة عشر مليون مهاجر سنويا للحفاظ على التوازن السكاني بين المتقاعدين والعمال.
ويضيف التقرير انه في حالة انعدام الهجرة سيتحتم على الدول الغنية أن ترفع من متوسط عمر العاملين فيها الى سن الـ 75 عاما بدلا من الـ50 أو 60 عاما للفرد حتى يحافظ على المستوى الراهن لعمر التقاعد وأنظمة الدعم الحكومية.
وتعتبر دول المنظومة الاسكندنافية (السويد والنرويج والدنمارك) من أفضل بلدان الاتحاد الاوروبي من حيث الرعاية والاهتمام بنظام التقاعد، فهي توفر للمواطنين المتقاعدين بسبب المرض أو الشيخوخة كل الفرص الاجتماعية والاقتصادية ومتابعة المعالجة الصحية الممتازة.
ففي الدنمارك على سبيل المثال تقدم الدولة للمواطنين من دون تمييز أو تفضيل خدمات اجتماعية وصحية عالية، فلا يوجد من يعاني من الجوع أو من التشرد نظرا لوجود المساواة والتوزيع العادل للثروة، فالنظام الاجتماعي والصحي الشامل الذي توفره الدولة للمواطنين يقدم لكل مواطن العلاج المجاني في المستشفيات والمراكز الصحية، وبالنسبة لكبار السن الذين لا يستطيعون العمل والتحرك فقد وفرت لهم الدولة البيوت المجهزة بجميع أسباب الراحة وشروط الصحة والمعيشة اليومية، وخصصت الى كل من يحصل على التقاعد راتبا شهريا يتراوح مابين 10 و12 ألف كرونة دنماركية (ما يعادل 2000 و2400 دولار أميركي)، وتتحمل الحكومة مسئولية إعالة العاطلين عن العمل من الشباب وطلاب المدارس والمعاهد والجامعات فتقدم لهم المساعدات المالية التي تكفيهم للمعيشة، ويتمتع كل اللاجئين والمهاجرين بالشروط نفسها المتوافرة للمواطن الدنماركي.
ويستطرد تقرير الأمم المتحدة عن السكان بأن النتائج السلبية التي تتمخض عنها نسبة الانخفاض المستمر في عدد المواليد وتزايد معدلات التقاعد تطرح أخطر القضايا التي يجب على حكومات العالم معالجتها ووضع الحلول المناسبة لتذليلها، مثل تحديد عمر التقاعد ومعونات المتقاعدين وماهية السياسة الواجب اتباعها بخصوص المهاجرين والأيدي العاملة الوافدة الى أوروبا والبلدان الصناعية الأخرى التي يتم استقطابها من مختلف مناطق العالم الفقيرة.
وتشير الأرقام الى أن مشكلة انخفاض المواليد هي أكثر الحاحا في دول أوروبا الغربية من الدول الأخرى الصناعية المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأميركية، إذ تتوقع الاحصاءات السكانية نموا متزايدا في عدد السكان قد يصل الى أكثر من 350 مليون نسمة بحلول العام 2050.
وتأتي كل هذه النتائج السلبية عن مسائل الهجرة واللجوء السياسي والإنساني وانخفاض النسب السكانية الملفتة في غالبية دول الاتحاد الاوروبي في ظل مطالب متصاعدة من حكوماتها الرسمية بتشديد الرقابة الصارمة على المهاجرين غير الشرعيين، ووسط تنامي موجات المشاعر الشعبية المناوئة للمهاجرين واللاجئين في غرب القارة الاوروبية التي أدى بعضها الى حدوث اضطرابات واسعة في كيتوات ومعازل المهاجرين، اسفرت عن مقتل وإصابة المئات منهم في الكثير من العواصم الغربية.
في اجتماعهم غير الرسمي الذي عقدوه في مدينة كان الفرنسية التي تعتبر الممر الرئيسي للمهاجرين غير الشرعيين، وافق وزراء الداخلية والهجرة الاوروبيين على المشروع الذي تقدمت به فرنسا بشأن قواعد الهجرة الى الاتحاد الاوروبي الذي ينتظر ان يستكمل في اجتماعهم الرسمي في شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، وتتضمن أهم بنوده الاساسية إلغاء إمكانية إصدار عفو جماعي عن المهاجرين غير الشرعيين الذين أمضوا فترة معينة في البلدان الاوروبية ومنحهم الإقامة الدائمة، وهذا أمر جيد يبعث على الأمل، إذ يهدف اساسا الى تمكين المهاجرين الشرعيين من الحصول على فرص العمل بسبب الحاجة الملحة لعدد من القطاعات الاقتصادية في دول الاتحاد الاوروبي للأيدي العاملة. ولكن فيما يخص المهاجرين غير الشرعيين فان القرار قد يضطهدهم، إذ ينص على تسوية أوضاعهم بشكل فردي ووفق القوانين والقواعد المعمول بها في كل دولة أوروبية على حدة. ويدعو مشروع هذا القرار الى ابرام اتفاقات ترحيل المهاجرين من الدول الأخرى عند الضرورة، ويطالب المفوضية الاوروبية بأن تعتمد خطة أوروبية مشتركة للتعامل مع طالبي اللجوء ليصار الى تطبيقها بحلول العام 2011. ومعروف أن المفوضية الاوروبية اعتمدت قواعد جديدة لترحيل المهاجرين غير الشرعيين الذين تتزايد اعدادهم بصورة قد تخيف بلدان المهجر في أوروبا. وهذه القرارات ستدخل حيز التنفيذ بحلول العام 2010، ويمكن ان تسمح بالقبض على المهاجرين غير الشرعيين واحتجازهم لمدة قد تبلغ 6 أشهر قابلة للتمديد عاما آخر في بعض الحالات الخاصة، ما يعني ضياع آمال هؤلاء المهاجرين الذين حاولوا عبور البحار والانهار ودفعوا آلاف الدولارات وزهقت ارواح عشرات الآلاف منهم فيما يعرف بـ «رحلات الموت» من أجل الوصول الى جنة أوروبا بحثا عن حياة أفضل.
ولهذه الأسباب مجتمعة وقف رؤساء دول أميركا الجنوبية متحدين في وجه هذه القواعد التي من شأنها أن تلحق الضرر بشعوبهم المهاجرة الى أوروبا أو غيرها من الدول الصناعية المتقدمة، فلم يترددوا مطلقا بإدانة الإجراءات التي اتخذتها المفوضية الاوروبية حديثا بشأن الهجرة، باعتبارها قد تؤدي بمئات الآلاف من عمال أميركا الجنوبية الذين يعيشون كمهاجرين غير شرعيين في الكثير من دول الاتحاد الاوروبي إلى خسارة وظائفهم وبالتالي مستقبلهم الحياتي والاقتصادي. ووقفت معهم متضامنة في واقع الحال الكثير من المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية التي ناشدت حكومات الدول الصناعية الكبرى بتخفيف القيود على هجرة العمال الفقراء ومراعاة الاسباب والظروف الصعبة والقهرية التي ابعدتهم عن ديارهم وساقتهم الى متاهات الغربة القاسية والمحفوفة بصنوف المخاطر.