ألمانيا… لم تعد «حلم الجنة المنشودة»
كانت ألمانيا أبداً «الجنة» المفضلة لغالبية اللاجئين الفارِّين من مختلف مناطق الحروب والنزاعات المسلحة والاضطرابات حول العالم، ولكن بعد أن شددت برلين إجراءات قبول اللجوء، وجمع الشمل العائلي، وتقليص فرص العمل والمعونات الاجتماعية للأفراد والعائلات، الذين منحتهم السلطات الألمانية الرسمية، حق الإقامة حديثاً، والحيلولة دون توسيع نطاق النزيف الاقتصادي الألماني، أصبح تكريس وتعزيز كل هذه الأمور، عذراً ملائماً لهؤلاء في الإصرار على طلب العودة إلى بلدانهم الأصلية.
في أواخر العام 2015 استقبلت ألمانيا أكثر من مليون لاجئ، في نطاق ما ظل يعرف بـ «سياسة الأبواب المفتوحة» التي شرعتها على مصراعيها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وتسببت في انقسام الشعب الألماني، التي ظلت غالبيته تطالب بإجراءات عاجلة لوقف تدفق اللاجئين والمهاجرين، وحماية دولة الرفاه والاستقرار والأمن في ألمانيا، وتعهدت الحكومة الاتحادية الألمانية، بحماية جميع أوضاع اللاجئين، وتوفير الفرص الاجتماعية والعمل للأشخاص والعائلات، الذين يتم قبول طلبات لجوئهم في ألمانيا، فحالما برزت إمكانية تعرض الاقتصاد الألماني لصعوبات كبيرة وخطيرة، وحالما تسببت قضايا الهجرة في إحداث شرخ في جسم المجتمع الألماني، أقلعت الحكومة الالمانية عن مسارها نحو تحقيق هذه المكاسب، وتركت نفسها معرضة للانتقادات اللاذعة من قبل المنظمات الحقوقية الوطنية والأوروبية والدولية، وتركت انطباعاً واضحاً لدى كل هذه المنظمات بأنها قد تراجعت أمام الضغوط الاقتصادية، ومطالب القوى الوطنية المناهضة للجوء والهجرة، وتخلت عن مبدأ الدفاع عن المضطهدين والمسحوقين والفارِّين من أتون الحروب الدامية والمخيفة.
القوانين والإجراءات المشددة، التي فرضتها الحكومة الألمانية، على اللاجئين الجدد، فيما يخص جمع الشمل العائلي، والتردد في معالجة أوضاع الأشخاص والعائلات، الذين مازالوا ينتظرون من السلطات الألمانية تنفيذ الإجراءات المتعلقة بطلبات لجوئهم، جعلت معظم هؤلاء الأشخاص والعائلات يشعرون بالضيق والملل وصعوبة الانتظار في معسكرات اللجوء، التي يظل بعضها عرضة لهجمات مباغتة، وحرائق متعمدة من قبل بعض القوى المناهضة للأجانب، وكذلك القلق من امتناع هذه السلطات عن تلبية طلبات جمع شمل عائلاتهم، ولذلك أعدوا العدة لمغادرة الديار الألمانية، والعودة نحو أوطانهم الأصلية، رغم كل ما سيتعرضون له من أخطار وعواقب وخيمة.
بحسب مصادر وزارة الخارجية الألمانية، أن هناك أعداداً كبيرة من اللاجئين الجدد من كل من سورية والعراق، قد تقدموا بطلبات الرحيل بشكل طوعي من ألمانيا نحو بلدانهم الأصلية أو مناطق أخرى في أوروبا، وذكرت أن الكثير من اللاجئين السوريين اليائسين من ترتيب أوضاعهم في ألمانيا، قد عادوا أدراجهم إلى وطنهم أو مناطق أخرى في أوروبا، وأن سفارة العراق في برلين قد أصدرت أكثر من 1400 جواز سفر لمواطنين عراقيين لاجئين في ألمانيا، يرغبون بالعودة إلى العراق، بعد أن خابت آمالهم في تحقيق حلم الاستقرار المأمول في رحاب «الجنة الألمانية المنشودة».
وتحدث عدد كبير من اللاجئين الراغبين في العودة إلى بلدانهم الأصلية من ألمانيا، إلى عدة صحف ألمانية، عن معاناتهم القاسية في ظل عدم تمكن سلطات اللجوء من حل مشاكلهم بشكل ملموس، في نفس الوقت الذي عبر فيه البعض عن بالغ أسفهم من «فشل النمط الإنساني الألماني» الذي حقق ذاته من قبل ولم يعد اليوم فعالاً، ولم يعد ذا قوة سحرية تساعد على حماية الأشخاص الفارِّين من وطأة الحروب والنزاعات المسلحة والاضطرابات، ويسعون للحصول على ملاذات آمنة في ألمانيا، ويتلمسون حلم المستقبل.
وبحسب، وكالة أنباء «اسوشتيتد برس» الأميركية، فإن هناك أعداداً كبيرة من اللاجئين الجدد في ألمانيا، يعتزمون خوض مغامرات جديدة، قد لا تقل خطورة عن مغامرات «رحلات الموت» التي قادتهم لعبور السواحل الأوروبية، حيث يرغب العشرات من هؤلاء، شراء تذاكر السفر من ألمانيا، والذهاب إلى اليونان ومنها إلى تركيا، ومن بعدها إلى أوطانهم الأصلية.
أما السلطات الألمانية، المسئولة عن معالجة ملفات اللجوء والهجرة، فإنها تتذرع بوجود أعداد هائلة من اللاجئين، بلغت أكثر من مليون لاجئ ومهاجر، ويتعذر عليها والحال هكذا، من الإسراع في إنجاز جميع الملفات، في آن واحد، ولم لا وأن ألمانيا بلاد أصبحت في هذا الوقت بالذات، تتحمل أعباء أزمة اللجوء الكبرى في أوروبا، وهي تمر بأوضاع اقتصادية صعبة، وبفترة حرجة على صعيد نسيجها الاجتماعي، الذي أخذ يتسع في التفكك نتيجة الصراع المحموم بين المناصرين والمناهضين للأجانب، ولذا فإنها تظل تبحث عن مخارج جديدة، لكي تستطيع أن تعالج كل هذه المعضلات بالوسائل القانونية والدستورية، ولاسيما أن ألمانيا معروفة دائماً بأنها دولة النظام والقانون، كما أنها معروفة جيداً بتوجهاتها ومواقفها وتعاطفها الإنساني.
وقد نشرت الصحف الألمانية، خلال الفترة الأخيرة، تقارير تفيد بأن ميزانية الدولة، أصبحت مرهقة في ظل نمو موجة اللاجئين، وأنها ستخسر أكثر من 50 مليار يورو بحلول العام 2017 بسبب اللاجئين والمهاجرين الذين بلغ عددهم عند نهاية العام 2015 قرابة 1.1 مليون لاجئ، غالبيتهم من السوريين والأفغان والأفارقة، وتحاول الحكومة الألمانية تعديل هذا المسار، من أجل الحفاظ على دولة الرفاه والاقتصاد.