أميركا الشرق (بولندا)… بعد عقدين من الديمقراطية
بعد مضي 19 سنة على التحولات التي شهدتها بولندا، في أعقاب انهيار النظام الشيوعي منذ العام 1989، وتسلم نقابة التضامن العمالية زمام السلطة في البلاد، كانت هناك وعود كثيرة أطلقها زعيم النقابة، ليش فاليسا الذي أصبح في ما بعد، أول رئيس منتخب للجمهورية البولندية بعد سقوط الشيوعية (وأصبح اليوم مجرد تاريخ)، لجهة تحرير بولندا من سيطرة الاقتصاد المركزي والبيروقراطية المفرطة التي ضغطت على حياة المواطن البولندي.
هذه الوعود الكبيرة حاول زعيم نقابة التضامن من خلالها دغدغة أحلام الجماهير البولندية العريضة لاستقطابها نحو مشروعه السياسي المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية والغرب، وبشكل خاص من جانب دولة الفاتيكان (حوالي عشرة ملايين مواطن بولندي أعضاء رسميين في نقابة التضامن) أغرتهم الوعود الرنانة، بتحسين مستويات المعيشة والثراء السريع والانفتاح على العالم الخارجي، وبأن كل مواطن بولندي يعمل بجد وتفاني سيصبح من أصحاب الملايين، وبجعل بولندا المثقلة بالفقر والمشاكل الاقتصادية المزمنة أن تصبح (أميركا الشرق).
هكذا وعد الرئيس البولندي الأسبق ليش فاليسا شعبه التواق للوصول الى جنة الغرب المستعصي عليه بلوغها خلال حقبة الحكم الشيوعي الشمولي، الجنة التي ستحقق كل أحلامه وأمانيه في الدولة الديمقراطية الحديثة.
ولكن ما الذي تحقق بعد كل هذه السنوات الطويلة؟
الذي تحقق بحسب غالبية البولنديين، هي الصعوبات البالغة في الحياة المعيشية اليومية مع خطوات إلى الوراء تخطوها الديمقراطية البولندية التي تستمد قوتها الذاتية من خلال الأنظمة والمساعدات الاقتصادية الغربية المقننة، بعد انضمامها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، مع بضع منح اقتصادية هزيلة ومشروطة من قبل الولايات المتحدة الأميركية. وقد ظهرت بشكل واضح مؤخرا من خلال فرض إقامة الدرع الصاروخية الأميركية في الأراضي البولندية، الدولة الجارة والحليف القوي السابق للاتحاد الروسي بقصد تهديد أمنها.
التحولات الجديدة التي مازالت تتأرجح بها الحكومات البولندية التي تولت السلطة بعد التغيير، لم تستطع أن تحقق للمواطن كل ما كان يطمح إليه ويأمله. فقد ناضل هذا المواطن وبذل التضحيات من أجل التغيير والانتقال من واقع القهر وخنق الحريات، إلى وضع المنتصر بعد هزيمة النظام الشيوعي العنيد، يمكن أن تتحقق فيه الرفاهية والازدهار والتقدم وأسباب الأمن، ولكنه لم يحصل سوى على شعارات رنانة حول الرفاهية والرخاء الاقتصادي والتقدم، مازالت تزينها عناوين عريضة في مختلف وسائل الإعلام الرسمية والخاصة التي دأبت على المديح والتهليل لحفنة العطاءات الأميركية والأوروبية، ونكران الجميل لكل ما قدمه لها الاتحاد السوفياتي السابق من عطاءات جزيلة في مختلف الميادين وبخاصة النفط والغاز والتصنيع العسكري.
ففي هذا الوقت بالذات، ونتيجة لعدم وجود تغيرات حقيقية جوهرية ملموسة على مستوى الاقتصاد وتوفير فرص العمل للمواطنين، لم يعد المواطن البولندي يحلم بـ «جنة الغرب» التي سحره بريقها في حقبة ما قبل التغيير، ثم بخلت عليه بخيراتها الهائلة ولم تقدم له سوى فتات موائد شعوبها رغم شراكته لتلك الشعوب في عضوية الاتحاد الأوروبي، وبأن تصبح بلاده «أميركا الشرق» بعد أن توسعت محاولات تفقير غالبية الشعب بفرض الضرائب الباهظة عليه، بفضل الديون المتراكمة على الدولة لحساب صندوق النقد الدولي والمنح المالية الأميركية المشروطة.
لم يعد ذلك المواطن يثق بما قد يقوله القادة البولنديون القابضون على زمام الأمور في البلاد، وحتى أحزاب المعارضة التي ما برحت ترفع شعارات التجديد والتقدم.
اليوم يتضح العبوس مرتسما على شفاه المواطنين البولنديين الذين يغادرون البلاد بأعداد هائلة للعمل في مختلف دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية وحتى بلدان الشرق، ثم يواجهون هناك التحديات والمخاطر المجحفة في العمل والإقامة.
لقد فقد البعض كل أمل بمستقبل مزدهر، بعد أن أخذت الأمور تنزلق بهم إلى ضنك العيش والمستقبل المحفوف بالمخاطر.
بولندا تحولت وبعد سنوات من الوعود إلى خزان للمهاجرين الباحثين عن فرص عمل في أوروبا الغربية، وكل بقاع العالم.
لقد كثرت الشعارات التي تدافع عن الحرية والديمقراطية والحياة الكريمة للمواطنين، في ظل سياسة الانفتاح واقتصاد السوق وفرص الاستثمار المتعددة الجنسية التي غزت بولندا في السنوات الأخيرة، ولكن مستويات معيشة المواطنين، مازالت تسير نحو الأسوأ بحسب تعبير أحد الاقتصاديين البولنديين، وما يتردد في أنحاء متعددة من بولندا أن «الآتي أعظم»، حيث يتوقع الناس أن تشهد البلاد موجات عالية من الغلاء الفاحش في أسعار السلع الأساسية الاستهلاكية اليومية التي كانت خلال الحقبة الشيوعية مدعومة من الدولة وتباع بمبالغ زهيدة للغاية، وارتفاع الضرائب وأجور السكن والوقود، وهذا ما بات يشكل إحدى الهموم الحياتية الصعبة للمواطن البولندي.
الجنة التي وعدوا بها ذات يوم تحولت إلى سراب