الوزير… في دار العجزة
اهتمت الصحف الدنماركية الصادرة صبيحة يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بحدثٍ يُعتبر غير مألوف في تاريخ البلاد، وهو يتعلّق بانتقال رئيس الوزراء الدنماركي الأسبق أنكل يانسن، البالغ من العمر 86 عاما، والذي ظل ممسكا بزمام السلطة في البلاد طوال 12 سنة من الزمن قبل أنْ يتركها في العام 1972، من شقته المتواضعة في أكثر أحياء العاصمة الدنماركية فقرا، بعد أنْ عاش فيها وحيدا منذ العام 1997، بعد وفاة زوجته أنكريد يانسن، التي كانت تساعده في أعباء حياة الأسرة، إلى دار المسنيين (العجزة) حيث سيعيش هناك بقية حياته بين الناس العاديين (العامل والفلاّح والبحّار والمنظف والمعلّم وسائق التاكسي وغيرهم من أفراد الشعب).
وغرابة ذلك الحدث تكمن في النهاية المؤسفة لرئيس وزراء البلاد، التي تطورت وتوسعت في عهده معظم وسائل التعليم والصحة والثقافة والخدمات الاجتماعية العامّة، وكان ذات يوم رئيس الاشتراكية الدولية، ليكون أحد القاطنين في إحدى دور العجزة في البلاد.
وذكر مسئول في الحزب الاشتراكي الديمقراطي (ممثل حكومة الظل) الذي ينتمي اليه رئيس الوزراء الأسبق أنكل يانسن، بأنّ سبب انتقاله، من شقته الواقعة في المنطقة العمّالية وفضل البقاء فيها على مدى 45 سنة مضت، يعود الى الصعوبات التي يُواجهها، في تسلّق السلّم الى الطابق الثالث حيث تقع شقته. وأضاف: إنّ قرار الانتقال جاء بناء على رغبة الوزير الأول أنكل يانسن، بالإقامة والعيش الى جانب الناس الذين وجدوا أنفسهم في شخصه، وسوف تقوم الشركة المالكة للشقة بعرضها للايجار.
ولو قارنا ذلك الحدث، مع ما يجري في دول أخرى مثل البلدان العربية وبلدان العالم الثالث، التي ما برحت تدعي ممارسة الديمقراطية والمساواة والعدل والمشاركة الحقيقية في المجتمع، لأمكن تخيّل الوضع المختلف اختلافا جذريا، لما هو عليه الحال في الدنمارك أو في أيّ بلد آخر يحترم قيم الديمقراطية والحكم الدستوري وحقوق الإنسان، حيث يحتكر حكّام تلك البلدان مختلف وسائل السلطة والقمع، وتنوع الامتيازات التي تفوق كلّ التصوّرات، من القصور والخدم والحشم واقتناء السيّارات الفارهة وامتلاك المزارع والمجمّعات السكنية النموذجية والأبراج التجارية الضخمة المصممة على طريقة ناطحات السحاب. هذا بينما كان أنكل يانسن، المناضل العامل الذي خرج من صلب الطبقة الكادحة الفقيرة، وهو رئيس الحكومة القادر على امتلاك مثل هذه الامتيازات الدنيوية الزائلة، يعيش طوال حياته في شقة متواضعة جدا ومستأجرة من إحدى شركات الإسكان، حيث لا يرغب في شيء من أملاك الحياة الدنيا، سوى قلوب الناس الفقراء، من وهب حياته لخدمتهم واحترامهم.
ومنذ أنْ كان أنكل يانسن، مناضلا في صفوف الحركة العمّالية الدنماركية، أشتهر بحياة التقشف والصبر والتواضع ونكران الذات والعمل من أجل خدمة الطبقة الوسطى والفقيرة في المجتمع، وكان شديد الحماس لمناصرة قضايا الشعوب المضطهدة والمحرومة. وعندما قصدناه ذات يوم من أجل التضامن مع شعب البحرين في محنته خلال سنوات الانتفاضة الدستورية في تسعينيات القرن الماضي، لم يبخل علينا بذلك، فكان أحد الداعمين للعريضة المطلبية للمعارضة، التى وقع عليها قرابة ثلاثة آلاف مواطن دنماركي من مختلف الفعاليات السياسية والثقافية والفكرية والعمّالية والطلابية وغيرها من الفئات والشرائح الشعبية التي تعرفت على قضايا شعب البحرين خلال تلك الفترة العصيبة.
وها هو أنكل يانسن اليوم يؤكّد حرصه وتمسكه بمواقفه المبدئية، وتشدده في الانتماء العضوي لأبناء الطبقة العاملة من أفراد شعبه الذين مازالوا يتذكرون كلّ إنجازاته التاريخية الجليلة. وطبعا المخلصون في خدمة الأوطان والشعوب هم وحدَهم فقط من يستحق الذكر والاحترام والتبجيل، وهم وحدهم الذين يبقون في نظر شعوبهم وأمتهم (الرموز والأبطال) فهم الذين يُغامرون دائما ضد المألوف ويسعون لتكريس أواصر المحبّة والإخلاص والعمل في خدمة شعوبهم.
إنّ ظاهرة أنكل يانسن، هذه لها وجهان، الأوّل شخصي، وهو الذي يتعلّق بالكشف عن معدن هذا الرجل، الذي كان ولايزال زاهدا بكل مظاهر السلطة والبذخ، مكرّسا حياته لخدمة شعبه ووطنه، والثاني يتمثل بطبيعة النظام السياسي للدولة الديمقراطية الدستورية العصرية، حيث منصب رئيس الوزراء ومجمل الموظفيين الرسميين في السلطة، هو عبارة عن تكليف وواجب وخدمة وطنية، أكثر مما هو امتياز وتمسك بالحكم والجاه.
فما أن يترك الشخص مثل هذه المناصب الرسمية الرفيعة، حتى يعامل حسب آلية النظام كمواطن عادي شأنه شأن المواطنين الاخرين كافة، تنطبق عليه جميع القوانين والتشريعات والإجراءات المكرسة في الدستور والنظام السياسي، فلا فرق هناك في شروط المواطنة بين رئيس الوزراء وبين العامل والموظف والفلاح، فهم في كفة واحدة أمام القانون