«غجر أوروبا»… والبحث عن العدالة والأمن
يبدو أن الأقليات الغجرية في أوروبا، بدأت تشعر بقلق عميق على أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية وضياع هويتها القومية، في غمرة الهجمة العنصرية والشوفينية واسعة النطاق، التي تجتاح اليوم القارة الأوروبية، من خلال الاضطرابات وأعمال العنف وشعارات العنصرية والنازية الجديدة، التي ترفع بشكل ملفت في أوساط اليمين المتطرفة في أوروبا، ضد وجود الأقليات القومية والدينية التي تشارك في نسيجها الاجتماعي. وتعاني الأقليات الغجرية بشكل خاص في شرق القارة الأوروبية، من مظالم سياسية واجتماعية واقتصادية كثيرة تبعث على القلق.
ففي بلدان شرق أوروبا، التي كانت تعرف قبل عقدين من الزمن، بـ»بلدان المعسكر الاشتراكي» وخصوصا رومانيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، حيث تتمركز هناك في ترابهم الوطني، أكبر نسبة من الأقليات الغجرية، قد تصل إلى 7 ملايين نسمة من مجموع 10 ملايين نسمة، تقيم في عموم القارة الأوروبية، يعانون جميعهم من عدم الاعتراف بهم حتى الآن على صعيد التمايز الإثني والقومي والاجتماعي والثقافي والعقائدي، التي توّحدهم تاريخيا. كذلك التمييز في فرص التعليم والعمل والمسكن المناسب، التي تعكس حرمان الفئات الغجرية من نيل أبسط حقوق المواطنة المشروعة في البلدان التي عاشوا وترعرعوا في كنفها.
وقد جعل انهيار الأنظمة الشيوعية الشمولية في شرق القارة الأوروبية، التي حقّقت للأقليات الغجرية بعض طموحاتها الروحية والإنسانية، وتنامي مشاعر العداء للأقليات الإثنية والقومية والدينية مؤخرا في أوروبا، جعل الفئات الغجرية غير مرغوب بها في ظل (انفتاح الانظمة السياسية الجديدة التي صعدت إلى السلطة بعد الثورات المخملية التي اكتسحت الشيوعية قبل عقدين من الزمن)، في حين كانوا قبل انهيار الستار الشيوعي الحديد، بمثابة الورقة الرابحة في أيادي جميع فصائل المعارضة الوطنية والقوى العالمية الأخرى المناهضة للشيوعية، على مدى سنوات الحرب الباردة بين الاشتراكية والإمبريالية العالمية، التي حاولت أن تستخدم القضية الغجرية كأداة فاعلة في تشويه صورة أنظمة الحكم الاشتراكية في أوروبا، تحت ذريعة تجاهل هذه الأنظمة لمعاناة الغجر ومصير قضيتهم القومية.
ولكن الأنظمة السياسية (الديمقراطية) الجديدة، في شرق القارة، التي ورثت الحكم عن الشيوعية، ظلت تغدق الوعود والتطمينات للأقليات الغجرية التي خافت على مصيرها ومستقبلها، من مجريات التغيير، أنها سوف تحترم هويتها القومية، وأنها سوف تنعم بالازدهار الاقتصادي الذي جلبته الديمقراطية والتعددية والحرية، ولكن مرت على هذه الوعود والتطمينات سنوات طوال من دون أن يتحقق منها شيء على أرض الواقع، سوى زيادة المعاناة والبؤس وتجاهل أكبر للقضية القومية. وقد بدت مؤخرا أيضا، بعض البوادر التي أقلقت هذه الأقليات خصوصا في هنغاريا، بعد اشتداد موجة العنصرية المخيفة ضدها، من فئات وشرائح الشباب الهنغاري التي بدأت تتململ من سلبيات الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المزرية، بعد اتساع نطاق الأزمة الاقتصادية العالمية، وتنامي موجات العنصرية والنازية الجديدة في أوروبا.
فلقد تم تطمين الفئات الغجرية، بأن حياتها وحياة أجيالها القادمة، ستتغير في ظل عدالة الدولة الديمقراطية الجديدة، بعد انصهارهم في المجتمع الواحد الموحد، وأنهم لم يعاملوا أبدا كمواطنين منبوذين، أو من الدرجة الثانية أو الثالثة، وسوف تحترم لغتهم وهويتهم وطقوسهم وثقافتهم، ولكن للأسف الشديد، لم يحصل الغجر على شيء من هذا، سوى المزيد من الاضطهاد والكراهية التي يلقونها سواء من بعض أفراد المجتمع أو من خلال سياسات الدولة الرسمية.
لكننا وجدنا، أنه بالرغم من القصور التي واجهته الأقليات الغجرية، في ظل الأنظمة الشيوعية السابقة، إن هناك عوامل إنسانية وأخلاقية متعددة، دفعت هذه الأنظمة إلى احترام خصوصيات تلك الأقليات وتحقيق بعض طموحاتها في الحياة العامة، لأنها كانت تدعو إلى الاشتراكية بين البشر، وقد ظهر ذلك واضحا في توفير فرص العمل للغجر في المعامل والمصانع وجميع مؤسسات النفع العام، والصحة والتعليم والإسكان، التي أخذوا يفقدون أكثرها اليوم في ظل الأنظمة الجديدة (المنفتحة).
تقول منظمات حقوقية وإنسانية تعنى بأوضاع الأقليات الغجرية حول العالم، أن الأوضاع الإنسانية والاقتصادية في غالبية بلدان شرق القارة الأوروبية، تسير من سيئ إلى الأسوأ، ولذلك فإن حكومات هذه البلدان، التي التزمت أمام شعوبها وأمام المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية، باحترام الآخر وتطبيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، الوفاء بوعودها بالعمل على إدماج القومية الغجرية ضمن أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية كمواطنين تنطبق عليهم كل شروط المواطنة التقليدية.
وإلى ذلك حذرت منظمات حقوقية أوروبية، من مغبة تجاهل القضايا القومية الغجرية، سواء في أوروبا، أو في العالم برمته، بوصفها إحدى القضايا القومية الملتهبة التي تنتظر من يوقدها، ومؤكدة على أن التهميش الاجتماعي والثقافي والفقر المدقع وغياب فرص العمل وتصاعد موجات العنصرية والشوفينية التي تقف وراءها مجموعات من اليمين المتطرف في أوروبا الشرقية، تساهم بشكل أكبر في معاناة الغجر وفي تعقيد إيجاد الحلول السريعة لمعالجة قضيتهم القومية.
ومنذ سنوات طويلة مضت، أقر المجلس الأوروبي المكون من 32 دولة أوروبية، في مؤتمر عقد بمدينة ستراسبورغ في فرنسا، على اتفاقية تحمي لغة الأقليات الوطنية وحريتها الدينية والثقافية، وتحظر في مقابل ذلك سعيها إلى الاستقلال، وتجيز الاتفاقية للأقليات استخدام لغتها وممارسة شعائر دينها، وتوضح بأن الأقليات المتفرقة بين مختلف الدول بإمكانها التعاون وتحظر الاستيعاب بفرض القوة، ويبدو أن القومية الغجرية لم تستطع أن تأخد نصيبها من هذه الاتفاقية حتى الآن.