أحمد الشملان… عملاق في زمن الشدة والانفراج السياسي
الكثير من التجارب النضالية والإنسانية، تستحق الاهتمام والتوثيق والعرض الدقيق والموضوعية والشفافية في الطرح، وكثيرون وبخاصة الجيل الراهن في البحرين، لا يعرفون سوى القليل عن تاريخ المناضل الوطني أحمد الشملان (أبو خالد) وتضحياته ومناقبه وقوة عزيمته وصموده في زمن الشدة، الذي حاول يائسا، على مدى سنوات طويلة مضت، أن ينتزع من أحشائه وأعماق قلبه عشق هذا الوطن، ودفاعاته المشهودة والمعروفة عن الفقراء والمحرومين، قبل أن تقوم زوجته ورفيقة دربه السيدة الفاضلة فوزية مطر، بنشر الكتاب «المجلد» الذي أطلقت عليه اسم «أحمد الشملان… سيرة مناضل وتاريخ وطن» والذي هو عبارة عن بانوراما شاملة من المعلومات والصور والحقائق، التي تسلط الضوء بعناية فائقة، على تاريخ رجل شجاع ضحى من اجل قضايا الإنسان والوطن، على مدى سنوات طويلة من الزمن، ولا يزال يشق الطريق نفسه الذي عاهد نفسه ورفاقه وشعبه، على قطعه مهما كلفت التضحيات.
تروي فصول الكتاب التي جاءت متناسقة في التسلسل التاريخي للسيرة الذاتية والمسيرة النضالية في حياة الشملان، مشاهد كثيرة ومتنوعة، بعضها مؤثر مؤلم والبعض الآخر مضيء ومشرق بالآمال الكبيرة التي ينتظرها شعب البحرين تتويجا لنضالاته الباسلة والمستمرة، من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
نشأ الشملان وترعرع في أحضان عائلة وطنية مناضلة، كانت تناصر وبقوة قضايا العروبة والحرية والسيادة والاستقلال، وفي أجواء كانت خلالها شعوب الدول الفقيرة الواقعة تحت سيطرة وحراب الاستعمار، تشد العزيمة والمقاومة لطرد المستعمر الأجنبي، وبناء الدول الوطنية الجديدة المستقلة، وفي فترة واعية نهض فيها شعب البحرين بمختلف فئاته وتياراته وطوائفه، يطرح مطلب الحرية والديمقراطية والاستقلال، وكان يتعرض من خلال ذلك إلى مختلف صنوف القهر والتعسف العام، منذ ذلك الوقت حزم الشملان أمره بالاشتراك مع شعب البحرين إلى التحرر من التبعية والسيطرة الاستعمارية والنظام الأمني التعسفي، فانخرط في صفوف الحركة الشعبية الثورية العربية والجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي التي قادت نضال تحرير المنطقة من الاستعمار البريطاني، من سهول وأعالي قمم جبال منطقة ظفار في عمان، ثم جبهة التحرير الوطني البحرانية، وفي حقبة التسعينيات التي شهدت فيها البحرين أسوأ سنوات تاريخها السياسي والأمني، حيث شكلت مرحلة معتمة من القمع، تمثلت في حملات الاعتقال التعسفي والقتل تحت وطأة التعذيب وإطلاق الرصاص الحي والعشوائي في التظاهرات السلمية المطلبية وخنق الحريات والنفي القسري لمئات العائلات البحرينية في مختلف العواصم العربية والعالمية، كان الشملان، رمزا بارزا من رموز النضال في هذه الحقبة المعتمة، وكان يمثل «النموذج الأمثل» في الممارسة والتجربة والحنكة النضالية المسالمة والشفافة والنابذة للعنف والتميز الطبقي والعقائدي والطائفي، الذي ساد لأاسف الشديد تلك الحقبة، بفضل سياسة «فرّق تسد» التي تميزت بها سياسات السلطة لتفتيت وحدة الجبهة الداخلية.
كان أحمد الشملان، المعروف بخجله وحشمته وقوة صلابته، داعية للوحدة الوطنية وساعيا في كل الأوقات إلى سلوك سياسي مرن من توطيد العلاقة مع كافة التيارات والطوائف وقوى التغيير في البلاد، وكثيرا ما تجاهل الأصوات النشاز التي اتهمته بالانحياز لطائفة على طائفة أخرى في المجتمع، وكثيرا أيضا ما تحدى أجهزة الأمن البحرينية التي ظلت عيونها مفتوحة على سكناته وتحركاته في الساحة الوطنية وفي الخارج، إلا انه لم يرجف ولم يحد عن أفكاره وتطلعاته ومبادئه وتعاطفه مع أبناء شعبه المغلوب على أمرهم.
وبدلا من أن يتم منحه وسام الشجاعة والإخلاص للوطن والحرص على مستقبل الأجيال القادمة في البحرين، تم استدعاؤه في فترة أمن الدولة إلى «القلعة» للتحقيق في شكوى رفعتها ضده المخابرات تفيد بأنه يمارس التحريض ضد النظام السياسي المعمول به في البحرين، ويعمل لصالح طائفة وجهة أجنبية، لا تريد الأمن والاستقرار للبلاد، وانه قد نشر في شهر مايو/ أيار 1995 مقالا في صحيفة «القدس العربي» الصادرة في لندن والممنوعة في البحرين، تحت عنوان «البحرين… هل هي معارضة أم ممازحة» شبّه خلاله رجال هندرسون، بجنود النازية الألمانية، عندما كانوا يحاصرون مناطق الاحتجاجات الشيعية ويمطرونها بوابل من الغازات المسيلة للدموع ويقتحمون البيوت ويعبثون بأرواح الناس، كما أشاد فيها بالأعمال «التخريبية» التي مارستها فئات «خارجة على القانون» في المناطق الشيعية، وأكد على الدور المميز الذي لعبه علماء الدين في خطب الجمعة في المساجد، بالتركيز على شرح مفهوم الديمقراطية ومواد الدستور البحريني والتأكيد على الوحدة الوطنية، وعلى عدم تجزئة الشعب البحريني على أساس طائفي أو سياسي، وقبولهم بالمشاركة والاتحاد والتعاون مع الوطنيين الديمقراطيين من مختلف التيارات، وليس بما قاموا به من تحريض، وعندما قابله المحققون قالوا له بكلمات غاضبة وقاسية في العمق: «كنا نعرف أنك شيوعي فوجدناك الآن شيعي»، مؤاخذين عليه وقوفه إلى جانب طائفة من الوطن كان أبناؤها يعانون من شدة التمييز الطائفي والحرمان من التوظيف في بعض الوزارات السيادية في الدولة الرسمية، ويساقون بشكل شبه يومي وبصورة خارجة عن إطار القانون، إلى المعتقلات والمحاكم البحرينية، بسبب آرائهم وأحلامهم وأمانيهم بالعيش في وطن يتسع للجميع؛ ما قد سبب له بعد ذلك مباشرة جلطة مازال يعاني من تبعاتها المؤلمة حتى اللحظة الراهنة، حيث رفضت السلطات الأمنية في البحرين آنذاك طلبه للعلاج في الخارج وأبقت عليه رهينة في داخل البلاد، بعد ان حجزت جواز سفره وراقبت كل تحركاته، خشية تعرضها لانتقادات المنظمات الحقوقية العربية والدولية التي كانت تراقب أوضاع البحرين في ذلك الوقت عن كثب، وهو بهذا كان أحد ضحايا تلك الحقبة الأسوأ في تاريخ البحرين.
ظل الشملان طوال سنوات الجمر والرصاص والسجون والتهجير والنفي التعسفي، قادرا على المجاهرة بصوته وعقله وجوارحه، مناصرا للعدالة والحق وتغيير الحال، ولم يحِدْ عن ذلك قيد أنملة، في وقت توارى فيه عن الأنظار آخرون كانوا يصورون لأنفسهم أنهم «مناضلون وقادة ومفكرون» خوفا على فقدان وظائفهم وأرواحهم، من أهوال التعسف والبطش، الذي لحق بالمناضلين الحقيقيين في المجتمع، ثم خرجوا – بحسب المناضل الوطني الكبير عبدالرحمن النعيمي شافاه الله وعافاه – ينفظون عنهم غبار القبور، في سباق محموم لتقاسم قطعة الكيك مع الآخر الذي قدم التضحيات الجسام، في زمن الانفراج الأمني والماء البارد.
وبقدر ما كان يحمل الشملان، من رصيد تاريخ طويل وملهم وواضح البصمات في ساحة النضال الوطني والدفاع عن الحريات في البحرين، فإنه كان أيضا بارعا في الأدب والشعر والصحافة، فقد كانت قصائده الشعرية وكتاباته الصحافية المبدعة تتفاعل مع آلام الناس وأحاسيسهم وهمومهم وأحلامهم وأمانيهم وتطلعاتهم للحرية.
ولأن الشملان، كان محاميا مهووسا بروح التقدم والإنسانية ومساعدة الفقراء، فإنه قد تطوع للدفاع عن أبناء البحرين المناضلين من اجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، الذين تعرضوا للاعتقال والتعذيب والمحاكمات، خلال حقبة قانون ومحكمة أمن الدولة، من دون أن يقبل على نفسه أن يدخل في جيبه فلس واحد في مقابل المرافعات التي أخذت منه الكثير من الجهد والوقت والعمل.
وفي مرحلة الانفراج التي بدأت أواخر العام 1999، لم يسع الشملان، كما سعى أو تسابق غيره كثيرون للمطالبة أو السؤال عن تعويضات كل ما لحق بهم في سنوات التعسف العام، من سجون أو عاهات جسدية أو تهجير قسري أو خسارة وظيفة، فظل صابرا صامدا قنوعا بما كتبه الله له في الدنيا من أعمال حسنة وجليلة.
وأخيرا لا آخر، فإنه يحق الآن لأحمد الشملان، الذي بذل كل هذه التضحيات الكبيرة، أن يدخل التاريخ من أبوابه الواسعة كما دخلها، نخبة من المناضلين الشجعان (عبدالرحمن الباكر، وعبدعلي العليوات، وعبدالعزيز الشملان، والسيد علي كمال الدين، وإبراهيم فخرو، وإبراهيم الموسى، وعبدالوهاب الزياني، وأحمد بن لاحج، ولاحقا محمد بونفور، والشيخ عبدالأمير الجمري، والشيخ جمال العصفور، وأحمد إبراهيم الذوادي، وهشام عبدالملك الشهابي، وعبدالرحمن محمد النعيمي – شافاه الله وعافاه -) قبله، فإنه يستحق أن يُكرَّم تكريم الأبطال، وأن يكون أحد هؤلاء الجبال الشامخة التي صمدت وحفرت أسماءها بحروف من ذهب في تاريخ البحرين، وغيرهم من المناضلين الشرفاء، والقافلة مستمرة.