مانديلا وجنوب إفريقيا… بعد 20 عاما على الحرية
قبل عشرين عاما من الآن، قال رئيس جمهورية جنوب إفريقيا فريدريك وليم دكلير، الرجل الأبيض الذي كان يحكم البلاد بقبضة فولاذية في ظل نظام الفصل العنصري، خلال الاحتفال المهيب الذي شهدته جنوب إفريقيا والعالم في الحادي عشر من فبراير/ شباط 1999، لمناسبة إطلاق سراح داعية السلم والتحرر وحقوق الإنسان نيلسون مانديلا، بعد 27 عاما قضاها في غياهب سجن جزيرة روبين، بسبب نضالاته المعبرة عن الحرية والديمقراطية وحقوق شعبه للعيش في وطن يتسع للجميع، وليصبح بعدها أول رئيس أسود ينتخب في أجواء ديمقراطية حرة ومباشرة في البلاد، ومثالا يحتذى لأمة قادها إلى التحرر من نظام الفصل العنصري الذي مارس بدكتاتورية مفرطة مختلف صنوف الاضطهاد والتعسف والتمييز العنصري المشين ضد المواطنين السود والملونين: إن التحول الديمقراطي الذي شاركت فيه كل الأعراق وأنتج «نموذجا يحتذى للعدالة والمساواة وقبول الآخر، سيغير جنوب إفريقيا إلى الأبد، وسوف يقود البلاد إلى آفاق رحبة تمثل تطلعات الأمة في مجال الحريات وتطوير الاقتصاد والتنمية ووقف العنف والجريمة المنظمة.
اليوم وبعد مرور عشرين عاما على تصريحات فريدريك دكلير، الذي سلم السلطة من بعده إلى الرئيس المنتخب نيلسون مانديلا، التي احتفلت قبل أيام جنوب إفريقيا بذكرى مرور 20 عاما على خروجه من السجن، وعلى الوعود التي قدمها مانديلا وحزبه «المؤتمر الوطني الأفريقي» للشعب العنيد الذي ناضل من أجل الحرية والعدل والمساواة وتقاسم الثروة والعيش المشترك، بسحق التمييز العنصري والقدرة على مواجهة التحديات الكبيرة والتغلب عليها والعيش في استقرار ومواصلة الاستمرار في تحقيق معدلات نمو اقتصادية جيدة في غضون عشر سنوات من تسلم الحكم، فإن حقيقة الأوضاع في جنوب إفريقيا – بحسب معظم المحللين الاقتصاديين – لم تكن في مقدورها على مدى عشرين عاما قادمة أن تحقق انتصارا اقتصاديا شاملا من شأنه أن ينتشل الأعداد الكبيرة من شعب جنوب إفريقيا الذين طحنتهم حروب الداخل وحصار التجويع في معظم مناطق ومعازل السكان السود، والذين لا يزالون يعيشون تحت مستوى الفقر، بالرغم من انهم يعيشون اليوم بحرية في ظل الأجواء الديمقراطية السائدة في البلاد، فهناك فجوة اقتصادية واجتماعية تتزايد بشكل مستمر بين الفقراء والأغنياء الذين مازالوا يحركون عصب الاقتصاد تجاه مصالحهم الواسعة وترك الفقراء يكابدون من أجل الحصول على كسرة الخبز، وبالإضافة إلى ذلك هناك أيضا مخاوف كبيرة يمكن أن تقلق تراث ثورة نيلسون مانديلا، التي تفجرت أساسا لضرب الإقطاع والتمييز الطبقي والإثني والعرقي، وصعوبات جمة تواجه حكومة جنوب إفريقيا إزاء محاولاتها للسيطرة على المشكلات المزمنة والمتجددة التي تنشأ في المناطق الفقيرة وبخاصة التي تشكل فيها أحداث العنف والجريمة المنظمة البعيدة عن أية رقابة صارمة، وحرمان إعداد واسعة من المواطنين من العمل والصحة والتعليم والمسكن الملائم، والطموحات الكبيرة لدى الطبقات المتوسطة التي تصارع من أجل أن تجد لها موقع قدم في خضم التنافس الاقتصادي الذي قننته السنوات الضاغطة من الأزمة الاقتصادية العالمية.
إن الفقراء الذين ناضلوا إلى جانب نيلسون مانديلا وحزبه وقدموا التضحيات الجسام على مذبح نظام الفصل العنصري، واحتشدوا اليوم لتخليد ذكرى انتصار الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم، لم ينسوا مطلقا كلام الرئيس دكلير، ولا حتى وعود قادة «المؤتمر الوطني الأفريقي» فقد طالبوهم جميعا، في هذه المناسبة الوطنية بتحقيق وعود الانتصار الاقتصادي وكبح مشكلة البطالة المتنامية بشدة ومظاهر العنف التي مازالت تحصد أرواح الكثيرين بسبب الصراع على لقمة العيش، وتوفير الصحة والتعليم العام وتشجيع الاستثمار ورفع مستوى معيشة أفراد الشعب.