لعبة الكراسي… في الانتخابات البريطانية
في مقابلة أجرتها معه الزميلة الصحافية دافني باراك، قبل الانتخابات التشريعية البريطانية للعام 1997، قال زعيم حزب العمال المعارض آنذاك، توني بلير الذي خاض هذه الانتخابات بثقة الرجل «المنتصر» على خصمه جون ميجور زعيم حزب المحافظين الحاكم في وقتها، مستنداً إلى التيار الشعبي الذي ألهمه الأفكار والتوجهات التغييرية داخل الحزب: «إن بريطانيا بعد السنوات العجاف التي تسبب بها حزب المحافظين، بحاجة ملحة لنهج سياسي جديد يكون مبنياً على إحداث تغييرات جوهرية اقتصادية واجتماعية نحو الأفضل، وإعادة بناء دولة الرفاه بدلا من استنفاد الطاقات في صراعات لا طائل لها بين اليمين واليسار».
وأضاف بلير: «إنني اشعر بالثقة بالفوز في هذه الانتخابات لان حزب العمال بدأ يمثل خيار التغيير في بريطانيا، في وقت أصبح فيه حزب المحافظين ينتهج سياسات عفا عليها الزمن واستنفدت طاقات جماهيرها الشعبية ومبررات بقائها على سدة الحكم».
وكانت النتيجة أن فاز حزب العمال على منافسه الصلب حزب المحافظين بغالبية ساحقة في صناديق الاقتراع، بعد أن حاز على رضا الرأي العام الذي وثق بوعود توني بلير التي غيرت كثيراً في نهج واستراتيجيات الحزب ليصبح – بحسب بلير – حزباً حديثاً يمتلك البرنامج والرؤية والقدرة لقيادة بريطانيا نحو القرن الحادي والعشرين، على العكس من حزب المحافظين الذي لم يستطع على الرغم من تبنيه سياسة اقتصادية (أفضل) وفرت للناس أوضاعاً معيشية مريحة، إلا انه جلب لهم الركود الاقتصادي الذي ولد لهم الشعور بعدم الأمان في سنوات طويلة.
ولكن برغم وجود الحقبة الذهبية، التي شهدت صعود حزب العمال في منتصف تسعينيات القرن الماضي، إلا أن الحزب واجه تحديات كبيرة وخطيرة على المستوى الوطني وأوروبا والعالم، قللت من هيبته كحزب رائد يقود بريطانيا نحو الأفضل في القرن الحادي والعشرين، فعلى المستوى الوطني فإن وعود الازدهار الاقتصادي وتحسين مستويات الطبقات المتوسطة والفقيرة، التي كانت بالفعل وراء الانتصار الساحق الذي حققه بلير وحزبه أمام المحافظين والديمقراطيين الأحرار، قد تلاشت في ظل موجات التضخم الهائل الاقتصادي والسياسات الضريبية الجديدة وحملات التقشف، التي ضغطت على حياة المجتمع برمته، بذريعة حماية الاقتصاد البريطاني وتقويته في وجه الدولار والعملات الدولية الأخرى، وشهدت خلالها بريطانيا احتجاجات وإضرابات عمالية وطلابية واسعة النطاق، شلت في أوقات متباينة، مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والعامة، وعلى مستوى أوروبا تصلبت بريطانيا في مواقفها من بعض المعاهدات الأوروبية ورفضت المشاركة مع نظرائها الأوروبيين في الاتحاد النقدي (اليورو)، وعلى المستوى الدولي، سارت البلاد بخطوات وثيقة بقيادة بلير، خلف سياسات الولايات المتحدة الأميركية التي رسمها الرئيس السابق جورج بوش الابن، المتشبعة بالغطرسة وشن الحروب غير المبررة على الدول الفقيرة والضعيفة، بذريعة التصدي للإرهاب الذي بلغ ذروة التحدي الهائل ضد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في أوروبا.
وبهذا الفشل في تحقيق الأهداف الوطنية والإقليمية والدولية، انهارت الآلة «السياسية الأسطورية» التي ظل يتفاخر بها حزب العمال في ذلك الوقت، والتي أبقته متربعاً على عرش السلطة طوال 13 عاماً من الزمن، وبات في ظل خليفة بلير، رئيس الحكومة الحالي غوردن براون، يعيش بمعنويات منهارة وتراجع ملموس في القواعد الشعبية، حيث خسر الحزب أصوات انتخابية كثيرة في الانتخابات المحلية والمجالس البلدية واستقال عدد من وزرائه في الحكومة، وأضعفت فضائح الفساد والرشا الكثيرة عدداً آخر من نواب الحزب داخل البرلمان.
وفي نفس الوقت الذي أخذت تتراجع فيه فرص حزب العمال في صراع الانتخابات البريطانية المقررة في السادس من شهر مايو/ أيار الجاري 2010، نتيجة تخبط السياسات الاقتصادية والاجتماعية لحكومة براون، بدأت تتقدم بخطى حثيثة حظوظ حزب المحافظين بزعامة ديفيد كاميرون، الذي ظل منذ السنوات الأخيرة وحتى اللحظة، يناضل من اجل تجديد وتحسين صورة الحزب ويرفع نفس شعارات بلير الاقتصادية والاجتماعية التغييرية الملهمة، التي أوصلت حزبه إلى السلطة في انتخابات العام 1997، حيث أظهرت معظم استطلاعات الرأي في بريطانيا خلال الأسابيع الماضية تحولاً ملموساً في الأصوات لصالح حزب المحافظين على أساس البرامج الجديدة للحزب والوعود ودغدغة المشاعر، التي أطلقها زعيم الحزب ديفيد كاميرون، بانتشال المجتمع البريطاني المنهك من الأوضاع المعيشية اليومية، وإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية التي ترزح تحت وطأتها حالياً، والتعهد بخدمة المواطنين الذين تم تجاهلهم في ظل حكومة حزب العمال، وإعادة النظر بكل الخطط الرامية لزيادة ضرائب التأمين الوطني على الرواتب وإعفاء ضريبي للمتزوجين ودعم رواتب التقاعد وتوفير الفرص الاجتماعية والعمل للمواطنين وخفض الضرائب.
ويعتقد المراقبون أن مثل هذه الشعارات الاجتماعية والاقتصادية الرنانة سوف تجلب تياراً شعبياً واسع النطاق، ممن أبدوا استياءهم، من السياسات الخاطئة لحزب العمال؛ لان الناخب البريطاني في هذا الوقت المأزوم بالذات، يظل يتمسك بالحزب الذي يمثل بالفعل مصالحه، ويبتعد تدريجياً عن ارتباطه الحزبي العقائدي والشعارات التي لا تسمن ولا تغني عن جوع، وانه إذا خسر حزب العمال الانتخابات القادمة، فانه من الصعب عليه بعد خمس سنوات العودة إلى السلطة، وسيبقى في المعارضة على مدى عشر سنوات على الأقل، حتى يستطيع أن يستعيد حيويته ببرامج اجتماعية واقتصادية جديدة، وسياسات معتدلة وشفافة على المستويين الأوروبي والدولي، تجذب تطلعات وأماني الأجيال البريطانية القادمة.