ملكة الدنمارك… امرأة عصرية

احتفلت الدنمارك رسمياً وشعبياً، في 16 أبريل/ نيسان 2010 بالعيد السبعين لولادة الملكة مارغريت الثانية، التي ورثت العرش من والدها الملك الراحل فريدريك التاسع، في الخامس عشر من يناير/ كانون الثاني العام 1972، وسط احتفالات مركزية في قلعة كرستيان بورج، مقر إقامة الأسرة المالكة الدنماركية.

وأمام حشد كبير من المواطنين وقادة الأحزاب السياسية في البلاد يتقدمهم رئيس الحكومة حينها جينس أوتوكراج، والذي أعلن في خطاب مؤثر إلى الشعب تسليم الحكم إلى ولية العهد الشابة مارغريت الثانية، بكت الأخيرة حزناً على فقدان والدها الملك الذي أحبته كثيراً وتعلقت به في حياتها، وخاطبت الشعب من على شرفة القصر بكلمات حزينة: «هل أستطيع تحمل مسئولية الحكم، بحيث لا يشعر الناس بخجلهم مني؟».

لم ينس الدنماركيون ذلك الخطاب السياسي الرسمي المفعم بالشفافية والود وخدمة الشعب، الذي دشنت فيه الملكة مارغريت الثانية، بداية مسيرة الحكم الزاخرة بالعطاء والتعاون والانفتاح وبناء الثقة المتبادلة مع المجتمع.

فالملكة مارغريت الثانية، هي رأس الدولة، وهي المواطن الأول في البلاد، وهي إنسانة شفافة ومبدعة، وفنانة تشكيلية ومثقفة وخريجة جامعة، وسفيرة ومترجمة ومتحدثة سلسة ومحاورة جيدة للقضايا الاجتماعية والإنسانية الخيرية، وزوجة وامرأة عصرية، وكيان إنساني حي، كما وصفها أحد مشاهير الكتاب في البلاد.

لم يكن أحد حينها يتصور بأن تصبح هذه الشابة اليافعة ملكة على الدنمارك؛ لأن الدستور الدنماركي قبل التعديلات التي أقرها البرلمان في العام 1953 لا يسمح بصعود النساء إلى العرش، لكن الاستفتاء الشعبي الذي صوت لصالح التعديلات الدستورية على هرم السلطة، والشعبية الهائلة التي كانت تتمتع بها الأميرة المحبوبة مارغريت الثانية، دفعت بها إلى تبوء العرش.

لقد كان على الملكة الدنماركية الشابة أن تتعلم فن القيادة وحرفة الملكية، فالملكة العصرية يجب أن تتقن مهارات عديدة وقدرات فائقة على المخاطبة والتخيل، حيث إنه من المتفق عليه أن يجلس على عرش المملكة الدنماركية أفضل الملوك والملكات الأكفاء.

لقد نجحت مارغريت الثانية في امتحانات الثانوية العامة في العام 1959 بتفوق، وبعدها واصلت تعليمها الجامعي في الدنمارك وبريطانيا وفرنسا، حيث كانت تدرس على قدم المساواة مع زملائها وزميلاتها على مقاعد الدراسة من دون أن تتميز عليهم بكونها عضواً في الأسرة المالكة الدنماركية، وعاشت حياة اعتيادية معهم كطالبة جامعية، ونالت احترام الجميع، وحصلت على شهادات علمية كثيرة من أهمها علم التاريخ وعلم السياسة والاقتصاد واللغات.

وتحمل الملكة مارغريت الثانية اليوم شهادات دكتوراه فخرية من عدد من الجامعات المعروفة على المستوى العالمي.

وبالرغم من أن التقاليد الدستورية في الدنمارك ترفع الملكة عن الصراعات السياسية اليومية بين الأحزاب وعلى مستوى المجتمع، وألا تعبر عن آرائها السياسية ولا تتدخل في الشأن السياسي برمته؛ لان هناك حكومة منتخبة انتخاباً حراً مباشراً من قبل الشعب هي التي تصنع القرار في البلاد، فإن الملكة تظل تشارك فقط في المناسبات الرسمية والشعبية واستقبال ضيوف البلاد من الرسميين، وتلتقي وزراءها أسبوعياً في مجلس الدولة، وتتحدث معهم بشفافية وندية حول بعض الأوضاع القائمة في البلاد.

وقد اجمع رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على سدة الحكم في الدنمارك، من اليمين واليسار، على وصف الملكة مارغريت الثانية، أنها امرأة حيوية وقائدة بارعة ومثقفة ونقدية ومنفتحة على الجميع.

وتدعم الملكة مارغريت الثانية حريات الرأي والتعبير وحقوق الإنسان، ويتجلى هذا الأمر واضحاً بقوة من خلال الخطاب الملكي السنوي الموجه إلى الشعب في مناسبة حلول السنة الميلادية الجديدة، حيث تخاطب الجميع بشفافية مطلقة وتتحدث معهم حول إشكالات القيم الأخلاقية والإنسانية التي يجب أن تسود في المجتمع.

خرجت جماهير الشعب الدنماركي يتقدمهم أعضاء الحكومة والبرلمان ورؤساء الأحزاب السياسية وبعض الملوك وحشد من المدعوين الأجانب الذين استطاعوا الوصول إلى الدنمارك في ظل محنة الطيران التي تسبب بها انفجار بركان آيسلندا مؤخراً، لتحية الملكة مارغريت الثانية في عيد ميلادها السبعين، متمنين لها دوام الصحة والعافية، وخاصة أن شعبيتها أخذت تزداد يوماً بعد آخر، نظراً لعطاءاتها المثمرة تجاه شعبها، على رغم بعض الدعوات الضيقة المحدودة التي ظهرت في الآونة الأخيرة تطالبها بالتنحي عن العرش لصالح ابنها ولي العهد الأمير فريدريك، والتي ردت عليها بالقول: «طالما بقيت لي طاقة في الجهد والعمل، فإنني لن أقصر أبداً في خدمة الدولة والمجتمع»، ومعربة عن أملها بأن يستمر الحكم الملكي في البلاد في ظل قيادة ابنها البكر ولي العهد وأحفادها اللاحقين

Loading