تونس… شعب كهذا لا يقهر
يمكن القول إن الانتصار التاريخي، الذي حققته الانتفاضة الشعبية في تونس بإسقاط حكم الرئيس زين العابدين بن علي، وجميع رموز الفساد والاستبداد، الذين فرضوا «قبضة طاغية» على جميع مفاصل الدولة والمجتمع، أكثر من عقدين من الزمن، قد أزاح كابوس الخوف والقلق، الذي كان جاثماً على صدور الشعب التونسي، منذ ذلك الوقت بفعل استمرار قوانين ومشاريع الظلم والحرمان والقمع المطلق والاستبداد، وقدم دافعاً قوياً للشعوب العربية الشقيقة، التي كانت ولاتزال تتوق لوجود الفرصة المناسبة للتخلص من حكامها وحكوماتها المستبدة، لكسر القيود والأغلال المحكمة، عن كواهلها المنهكة من وطأة القهر والظلم والتعسف، وتحقيق أحلامها وطموحاتها وتطلعاتها وحرية خياراتها لحكامها ولأنظمتها السياسية الوطنية.
وقد كانت الانتفاضة التونسية الأخيرة، بمقدماتها الشعبية العفوية وبالأساليب النضالية المستمدة من تراكم خبرات الثورات الوطنية ضد الاستعمار الأجنبي، والحركات الاحتجاجية المطلبية على مدى عدة عقود مضت، التي اتبعت «لتفجير البارود» الملتهب أساساً منذ السنوات الاخيرة، بفعل غياب الديمقراطية الواقعية وحقوق الانسان، وعدم قدرة النظام الحاكم في تونس، على انتهاج تنمية اجتماعية عادلة ومنصفة، ووضع حد لموجات البطالة المتنامية وخاصة بين أصحاب المؤهلات العلمية الجامعية العالية والطبقات الفقيرة، الدليل القاطع على قيام التحشيد الاجتماعي العفوي والتنسيق بين مختلف فئات وشرائح وطوائف واحزاب ومنظمات المجتمع التونسي، والاندفاع «بوقفة الرجل الواحد» نحو التخلص من نظام دولة القمع والاستبداد، التي دعمها الغرب وشد من أزرها طوال اكثر من عقدين من الزمن، بذريعة محاربتها للتطرف الاسلامي والتصدي للقرصنة والهجرات غير الشرعية لسواحل الدول الغربية التي تشكل هاجساً لكل دول القارة الاوروبية من خارج حدودها التقليدية، وفضح اكذوبة «دولة الرفاه والحريات» التي روج لها الاعلام الرسمي التونسي في مختلف المناسبات والمحافل الدولية طيلة اكثر من ربع قرن.
وقد كان واضحا منذ بداية انفجار الشرارة الاولى، في ولاية سيدي بوزيد «جنوب تونس» التي كانت تعاني الامرين، من الاهمال وفقدان الخدمات الاجتماعية الاساسية، على خلفية انتحار المواطن بائع الخضار محمد البوعزيزي، باضرام النار في جسده، بعد حرمانه من كسب مورد رزقه الوحيد، قبالة مبنى الولاية، أن الامور تتجه نحو التصعيد والتأزيم، لأن النظام الأمني المستبد، رفض الاحتكام لمنطق حق الانسان في الحياة، وتصدى بقوة الحديد والنار لتظاهرة سلمية عفوية كانت تطالب بتنمية اجتماعية عادلة وتقليص مستوى البطالة، أدت في نهاية المطاف، إلى فوضى عارمة وأحداث عنف دامية مؤلمة، بين قوات الأمن والمواطنين العزل، ليس فقط في هذه الولاية الصغيرة، بل أيضا في جميع المدن والمناطق التونسية، راح ضحيتها أكثر من «63 شهيداً» بحسب المنظمات الحقوقية التونسية والفيدرالية الدولية لحقوق الانسان، التي كان أعضاؤها يراقبون المشاهد الدموية عن قرب، ولذلك كانت نهاية النظام المحتومة، بأسرع مما كان يتصوره الناس في كل مكان في العالم.
فالجمهورية التونسية التي كان يصفها الغرب وأميركا بـ «جنة السياحة الموعودة» كانت طوال 23 عاما من حكم زين العابدين بن علي، رازحة تحت وطأة القمع والاستبداد وتكميم الافواه وتزييف الحقائق عن استتباب الامن والاستقرار وتصنيع السياحة وتطوير التنمية البشرية، في وقت أصبح فيه العالم يتحول بسرعة هائلة نحو العولمة والتطور والتخلص من إرث الماضي القمعي والاستبداد.
إذا ليس مفاجئا أن تشهد تونس هذا الحدث التاريخي المهم وغير المسبوق على مستوى الوطن العربي، في تاريخه المعاصر، الذي أدى إلى هذه النتيجة.
إلا أن المفاجئ حقا في تطورات هذا الحدث، هو أن غالبية رموز الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، من جميع الاطياف السياسية والامنية، لاتزال تمسك بدفة الحكم وتدير الامور، وبدلا من أن تسلم مقاليد السلطة للشعب التونسي صاحب التضحيات الكبيرة على مذبح الحكم، أو الشروع في نهج سياسي مختلف يكون مبنياً على احداث تغيير جوهري لبناء دولة النظام والقانون، تحاول أن تسرق انتصارات الشعب الملهمة، وتسقط من أياديه وسائل القدرة على تسلم الحكم والطاقة التي تمكنه من نقل البلاد إلى المستقبل الافضل إلى الاجيال الراهنة واللاحقة، ولكن المقولة المأثورة تؤكد على أن إرادة الشعوب لا يمكن أن تقهر أبدا، وأن قيد الظلم سينفصم وليل الحكومات المستبدة سوف ينجلي.