مصر… الشعب كسر حاجز الخوف وانتصر

انتصرت “ثورة مصر” أمس (11 فبراير / شباط 2011) وعمت الفرحة في كل مكان… لقد اشتعل لهيب الثورة الشعبية العارمة في مصر في 25 يناير / كانون الثاني 2011، وكسرت هذه الثورة الشبابية حاجز الخوف الشديد، الذي أطبق على أنفاس الشعب المصري طوال أكثر من ثلاثين عاماً من حكم الرئيس السابق محمد حسني مبارك، المرتكزة دعائمه على القمع والاستبداد وقانون الطوارئ وانتشار الفساد، ودعم الولايات المتحدة الأميركية والغرب واسرائيل، وأنعشت آمال الفقراء والبؤساء بقدوم عصر جديد، يحقق أحلامهم وأمانيهم بالعيش في وطن يتسع للجميع، ومضت ارتجاجاتها الشعبية العارمة تدك حصون النظام السياسي القمعي، التي كانت على امتداد ثلاثة عقود من الزمن، عصية على هبوب رياح التغيير، بفعل الستار الحديدي الذي فرضه نظام الحزب الوطني الحاكم على جميع مفاصل الدولة والمجتمع، من دون الاكتراث بحق الآخر واحترام إرادة الشعب.

فما حدث طوال أيام متتالية من انبثاق صرخة الحرية، وتعريض المتظاهرين المسالمين المطالبين بالعدالة الاجتماعية وتوفير لقمة العيش والمشاركة الحقيقية في صنع قرارات المجتمع واستعادة إرث دولة عربية كبيرة وعريقة، كانت في ما مضى من الزمن حاملة لواء العروبة والأمة العربية في مواجهة جميع المخاطر الداخلية والخارجية المحدقة والتحديات، يعطي انطباعاً قاطعاً، من أن المواطن المصري فقد الثقة الكاملة بالنظام السياسي الذي استمر يفرض الإرادة عليه طيلة عقدين من الزمن، ولم يستطع أن يقدم له سوى الذل والفقر والبطالة والفساد والمحسوبيات على أساس الولاء، والاستقواء بقوانين الطوارئ والمعاهدات السياسية والعسكرية واستجداء الأموال من الولايات المتحدة الأميركية والغرب والأسواق التجارية المفتوحة مع إسرائيل وغيرها من البلدان التي لاتزال تقمع إرادة الشعوب العربية في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بدليل اتساع نطاق الصرخة الثورية المدوية في جميع المدن والمناطق المصرية، وإصرار جميع أطياف المجتمع المصري، من السياسيين والحقوقيين والصحافيين والمثقفين والشعراء والفنانين والأطباء والمهندسين والطلاب والعمال والفلاحين، على ضرورة رحيل الرئيس حسني مبارك ونظامه الاستبدادي، وترك المجال للشعب المصري، لاختيار حكامه وممثليه في البرلمان والمجالس البلدية، وأنظمته الداخلية وعلاقاته الخارجية، مع ما رافق ذلك من دعوات واضحة وصريحة من عدم التدخلات الخارجية في الشأن الوطني المصري، وبخاصة تلك التي تصب في مصلحة إحياء روح هذا النظام من جديد.

بعد اشتداد وطيس الأحداث وتمسك الشعب بمطالبه الرئيسة، وفي مقدمتها إسقاط رأس النظام، تلاشت رموز الحزب الحاكم وجماهيره وقواعده، الذي قيل بأنها تضم الملايين من أبناء وبنات الشعب المصري، تحت وطأة الزحف المتواصل لاحتلال الساحات العامة والهتافات المدوية بسقوط نظام القمع والاستبداد، وبحور الدماء الغزيرة التي سفكت دفاعاً عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، مع هروب كل الأجهزة الأمنية القمعية عن ملاحقة الناس وتفريق التظاهرات، ووقوف الجيش الوطني المصري إلى جانب الشعب وترحيبه بالثورة السلمية.

وعادة ما يصور الإعلام الرسمي المصري مثل غيره من الأنظمة السياسية القمعية، التحركات الاحتجاجية الشعبية، المطالبة بالحرية وتنمية العدالة الاجتماعية وأبسط حقوق المواطنة المشروعة، على أنها من صنع فئات وجماعات «فوضوية وشعبوية» خارجة على القانون، ومرتبطة بمصالح وقوى خارجية معادية «للنظام السياسي والاجتماعي الشرعي» القائم في البلاد، ولكن حقيقة الأمر، هي أن الثورة الشعبية التي لاتزال تعصف اليوم بأركان الحكم في جمهورية مصر العربية، هي أكبر بكثير من مجرد وصفها «حركة فوضوية شعبوية» كما يحلو للنظام تسميتها، فهي ذات جذور اجتماعية واقتصادية وأمنية استبدادية عميقة، منذ مرحلة الاستقلال، التي شهدت صراعات سياسية واجتماعية ودينية كثيرة، بين مختلف الأطياف والمكونات السياسية والاجتماعية المصرية على قضايا أساسية جوهرية من أهمها على الإطلاق، التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري، ووحدة الأمة العربية والصراع العربي الإسرائيلي والتبعية الأجنبية، كان من شأنها أن تهز دعائم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وخاصة في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، ثم خليفته الرئيس محمد حسني مبارك، الذي أفرط في دعم مشاريع الهيمنة الفئوية والفساد والاستبداد وتحطيم أحلام الشعب الملهمة بحياة كريمة، لتقوية وتعزيز نظام حكمه العائلي.

إن تراكم الصراعات السياسية والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية الكثيرة الذي ظلت تعاني منها الغالبية الساحقة من المصريين، والاختمارات النضالية الثورية، منذ ذلك الوقت وحتى اللحظة، هي وحدها فقط التي مهّدت الطريق للنهوض الشعبي المصري المتنامي، الذي استطاع في هذا الوقت بالذات، أن يكسر حاجز الخوف، ويرفع شعارات التحرر من الدكتاتورية المحلية والتبعية الأجنبية، بلا مبالاة إزاء ما تعرض له من عسف قوات الأمن وسقوط أكثر من 300 شهيد في مختلف المدن والمناطق المصرية بالرصاص الحي والمطاطي التي أطلقت عياراتها المكثفة على التظاهرات.

هكذا عكست الثورة الشعبية المصرية أزمة المجتمع التي تداخلت فيها عناصر السياسة والفقر والحرمان والاضطهاد وغياب الإرادة الحرة، والحلول العملية من واقع الأوضاع الاقتصادية المعيشية المزرية، في وقت استباحت فيه أقلية طبقية حاكمة جميع المحرمات، وفرضت نفسها كأمر واقع على مقدرات البلاد كافة، بعيداً عن المكاشفة والمحاسبة وردع الأخطاء…

في مصر، هناك أكثر من 30 مليون إنسان يعيشون تحت مستوى الفقر المدقع، وثلاثة وعشرون في المئة من الأطفال المصريين البالغ عددهم 28 مليوناً، يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم، وأكثر من 25 في المئة منهم محرومون من أحد الحقوق المكفولة لهم بموجب اتفاقية حقوق الطفل التي صدّقت عليها الحكومة المصرية، وملايين البؤساء يعيشون من دون مساكن ملائمة تقيهم من حرارة الشمس ومن زمهرير الشتاء، وملايين أخرى من العاطلين عن الفكر والعمل موزعين في جميع أنحاء الديار المصرية، بعيداً عن أي اهتمام أو رعاية رسمية… وتحصل مصر، على أكثر من مليار ونصف المليار دولار سنوياً من المساعدات الأميركية وحدها فقط، من دون المساعدات الأخرى التي تقدمها الدول المانحة العالمية، لمختلف المشاريع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفنية، لكن أحوال المواطن المصري لاتزال تبعث على الألم والتذمر، ومواصلة طريق النضال من أجل كسب الحريات ولقمة العيش.

هذه هي مشكلة مصر الحقيقية، التي كسر الشعب قيودها بأغلى ما يملك، بالأرواح والدماء الزكية.

Loading