مدى صحة نبوءة «نهاية حقبة حقوق الإنسان»
في عددها الصادر في 2 مارس/ آذار العام 2010، نشرت مجلة «نيوزويك» الأميركية تقريراً موسعاً، تحت عنوان «سقوط حقوق الإنسان»، معتبرة أن عصر الدفاع العالمي عن حقوق الإنسان، قد تلاشى بشكل واسع النطاق، وحلت محله حقبة جديدة من الواقعية، التي لم يشهد لها مثيل منذ عهد وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر والرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، الذي شهد عصرهما بحق زلزال التحولات والحروب والأحداث الدراماتيكية الخطيرة على الساحة الدولية. ربما ان هذه النبوءة ليست صحيحة. ولكن لنرجع الى ما قالته المجلة الأميركية.
في الغرب – كما يقول التقرير – أصبح القادة الأوروبيين أكثر حذراً في التحدث علناً عن قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، بعد فشل دروس المواعظ التي ظل يستخدمها الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، في ترويج شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان عبر العالم، والتي كانت بالفعل شديدة التأثير على الحكومات والرأي العام الغربي، في ذلك الوقت بالذات، حيث صار الجميع يندفع، بشكل جنوني لمحاكاة المبادئ الأساسية التي ترفع للمطالبة بتنفيذ تغيرات ضرورية في الأنظمة السياسية الاستبدادية، التي تنتهك مبادئ القانون الدولي تجاه قضايا حقوق الإنسان، لجعلها أنظمة تعددية دستورية.
ويقول التقرير: «إن المسئولين في إدارة الرئيس باراك أوباما، لم يولوا اليوم (الحديث عن مطلع 2010)، كثيراً من الاهتمام بمصير الشعارات الديمقراطية التي رفعت في عهد الرئيس جورج بوش، بسبب ضعف مصداقيتها وفشلها، وصاروا يتعمدون تخفيف اللهجة، حيال تمرير الأفكار المطلقة، في قضايا حقوق الإنسان، بسبب الرفض الدولي المتزايد لمزاعم الرئيس جورج بوش، بأنه خاض الحرب في العراق، من أجل نشر الديمقراطية والحرية».
ويضيف: «قبل سنوات قليلة، تخلت ديمقراطيات عدة، في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، عن الدفاع العالمي عن حقوق الإنسان، ولا تأتي على ذكرها سوى في خطب أو مناسبات بين حين وآخر، مثل اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ما عدا الاستثناء اللافت الذي تشكله كندا، يلوذ العالم المتقدم بالصمت تجاه هذه القضية، لصالح تأمين الامتيازات والاستثمارات والصفقات التجارية وغيرها.
وفي العالم النامي انكفأت أيضاً الديمقراطيات الناشئة، التي بدت من قبل جاهزة للدفاع عن الحريات، بعد نهاية حقبة الفصل العنصري في جمهورية جنوب إفريقيا، حيث عقد عدد كبير من النشطاء الحقوقيين، آمالاً كبيرة على حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم، الذي استفاد من حركة ضغط عالمية عندما كان يناهض نظام الفصل العنصري وحكم الأقلية البيضاء، غير أن المؤتمر الوطني استخدم تأثيره في الأمم المتحدة لحماية النظام القمعي في زمبابوي، حيث تملك جنوب إفريقيا مصالح أمنية واقتصادية كثيرة، وصرف النظر عن ممارسات الطغمة الحاكمة المستبدة في بورما».
وبحسب التقرير، فإن التحولات الجديدة في ميزان القوى العالمي، لم تكسب موضوعة حقوق الإنسان، نفس الأهمية الدولية التي كانت تتمتع بها في حقبة سنوات التسعينيات من القرن الماضي، ومطلع القرن الراهن، ففي ذلك الوقت كان القادة والمبشرون بالتكنولوجيا الحديثة يقولون إن عصر التكنولوجيا الجديدة، سوف يتيح للجماعات الناشطة في مجالات حقوق الإنسان، التفوق على الحكومات القمعية التي ترفض الاعتراف بالحقوق والحريات، ونشر غسيلها أمام الرأي العام حول العالم.
ويضيف: «قبل عقد من الزمن كان القادة السياسيين، يرتقون إلى سلم البيروقراطية من خلال وزارات الخارجية في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة لبريطانيا وألمانيا، من خلال التركيز على قضايا حقوق الإنسان، وأما اليوم في ظل غياب الاهتمام الدولي بالدفاع عن الحريات الديمقراطية، لا تجدي للمرء بالمضي قدماً في تقلد مثل هذه المواقع».
في مقابلة صحافية، اعترف وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير، أحد مؤسسي منظمة «أطباء بلا حدود»، بوجود تناقض دائم بين حقوق الإنسان والسياسة الخارجية للدولة».
وقبل نحو 14 عاماً من الآن (1997)، صرح وزير الخارجية البريطاني في حزب العمال، الراحل روبن كوك، لصحيفة «أوبزيرفر» البريطانية: «إن هناك» مصالح وليس مبادئ «بالتعامل مع الأنظمة السياسية في مجالات حقوق الإنسان، فهناك أنظمة سياسية مخيفة حقاً لكنها مهمة جداً من الناحية الاستراتيجية، بحيث لا يمكن التضحية بها لصالح شعوبها من خلال الانتخابات الديمقراطية، غير أن هذه الأنظمة المحمية دائماً تسقط بالطبع، ونحن ننجح أحياناً في ترقيعها ببديل، وأحياناً أخرى لا ننجح، وفي كل الأحوال تكون الشعوب التي تتعرض لأنواع القمع والإهانة هي الخاسرة، لكن معها أيضاً مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي نرفع رايتها أحياناً في الخارج».
لكن على الرغم من الضعف، الذي تعاني منه حركة الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في هذا الوقت عبر العالم، يبقى الأمل معقوداً على الدور التي تظل تلعبه المنظمات الحقوقية الدولية المستقلة عن تأثيرات الأنظمة السياسية القمعية، في ميادين الدفاع عن الحريات وقضايا ملايين الناس، الذين يتعرضون يومياً لانتهاكات صارخة لحقوقهم وخياراتهم وتطلعاتهم لمستقبل أفضل في حياتهم، فما تبذله منظمات حقوقية دولية مستقلة مثل منظمة العفو الدولية و «هيومن رايتس ووتش» والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان والمنظمات الوطنية غير الحكومية، من جهود جبارة وفق مشاريع وبرامج ممنهجة، لفضح الأنظمة السياسية القمعية على انتهاكاتها لحقوق الإنسان أمام العالم، ومطالباتها المستمرة بالمساءلة والمحاسبة وتنفيذ القصاص الصارم، على مرتكبي الجرائم الوحشية بحق الإنسان، وكذلك أيضاً، الفضائح الكبرى التي نشرها موقع «ويكيليكس»، لتعرية سياسات الأنظمة الاستبدادية القمعية، سوى حقيقة واقعة تغطي الكثير من آليات الظلم الاجتماعي وفرض السيطرة والهيمنة على الآخرين، التي تطورت في ظل العولمة المتوحشة الراهنة، والتصدي لها على قاعدة الحق والواجب الأخلاقي والإنساني، والرؤى الواقعية المستقلة.