ليبيا… الحديد والنار في مواجهة ثورة الشعب
عندما يقصف سلاح الطائرات المقاتلة الليبية، المتظاهرين العزّل، المطالبين بالتحرر من قيود الاستبداد التي خنقت أنفاسهم طوال 42 سنة متتالية، من حكم العقيد معمر القذافي، فإن الحلول السلمية ضلت طريقها مع تصعيد أعمال العنف، وإن حياة النظام الليبي، بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وإن عصر استعراض القوة لسحق إرادة الشعوب قد عفا عليه الزمن، ولم يعد صالحاً لحماية أمن الأنظمة القمعية.
من هنا فإن الواقع الذي يعكس صورة القمع المطلق ضد شعب أعزل، لا يملك غير الإيمان بعدالة قضيته، بعد أن دمرت حياته أكثر من أربعة عقود عجاف، عانى خلالها ويلات الظلم والقهر والفقر والاستبداد والتخلف بشكل فاق كل ما هو معقول بالنسبة إلى دولة إفريقية نفطية، قيل إنها تمسكت منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بعرش الملكية السنوسية البائسة، بقيادة العقيد القذافي ورفاقه من الضباط الأحرار، في سبعينيات القرن الماضي، بنموذج الأنظمة الديمقراطية والاشتراكية الجماهيرية، التي وفرت للشعب الرعاية الاجتماعية والغذاء المجاني والصحة والتعليم والسكن، لا يمكن بحال من الأحوال أن يردم الهوة العميقة التي حفرها النظام الليبي في خاصرة المجتمع المحبط دائماً منذ ذلك الوقت وحتى اللحظة الراهنة التي كسر فيها حاجز الصمت والخوف، الذي فاجأ الجميع بالعودة إلى ماضي نضالات الشعب الليبي ضد المستعمر الأجنبي والقوى الأخرى التي فرضت عليه، قوانين وإجراءات الذل والهوان، مستلهماً بذلك شعارات الثوار الوطنيين الأحرار بقيادة أسد الصحراء الليبية الشهيد عمر المختار، والشعوب المظلومة التي تحررت من قيود الاستعمار والتبعية الأجنبية.
ولكن بالرغم من إصرار الشعب الليبي، على معركة كسر العظم بينه وبين النظام القمعي الذي فقد صوابه في أتون هذه المعركة غير المتكافئة في العدة والعتاد، ولم يعد يكترث بالأصوات الدولية، التي تطالبه باحترام إرادة شعبه ووقف نزيف الدماء، فإن الخوف مازال قائماً من أن تؤدي الوحشية القتالية التي تمارسها جحافل المرتزقة والمأجورين في صفوف النظام، إلى إغراق البلاد في بحر من الدماء، يمكن أن يعيق أي شكل من أشكال الحوار والتسامح، ويهدد تهديداً مباشراً بتمزيق الشمل الليبي والوحدة الجغرافية الليبية.
ولعل ما يحول دون استجابة العقيد القذافي ونظامه، للإرادة الشعبية، والنداءات العربية والدولية، هو أنه لايزال يصور لنفسه بأنه «القائد المهيب» و «ملك ملوك إفريقيا» والقادر الوحيد على سحق معارضيه بسلاح القوة العسكرية، وأن شعبيته الكارزمية الملهمة، مازالت تمتد إلى فئات وشرائح اللجان الثورية وقبائل وطوائف المجتمع، التي قيل بأنها كانت واقفة إلى جانبه بقوة خلال السنوات الـ 42 الماضية.
لذلك فإن خطوات العقيد القذافي، في تحطيم أحلام الشعب الليبي وانتفاضته الباسلة، عبر استقوائه بعناصر الأمن والأعداد الهائلة من المرتزقة الأفارقة والطليان وبعض العرب، واعتماده على سلاح الطيران الحربي لقصف مناطق الاحتجاجات وقطع الطرق المؤدية إلى العاصمة وترويع الآمنين، وعدم الاستجابة التامة لكافة الدعوات والمناشدات الحميدة العربية والدولية، لممارسة «ضبط النفس» والتخلي عن استخدام القوة المفرطة ضد شعب محبط في حياته السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية العامة، التي أسفرت عن قتل مئات الشهداء وعشرات المئات من المصابين والمفقودين، وفقاً لشهود عيان في مختلف مناطق البلاد، هي خطوات انتقامية بامتياز، وتوحي بإصرار النظام على مواصلة القتال حتى آخر رجل وامرأة وقطعة سلاح، كما صرح بذلك نجل القذافي سيف الإسلام، عبر التلفزيون الليبي، والقضاء نهائياً على كل من يعارض النظام.
كما أن من الصعب على العقيد القذافي، الذي لايزال يعتقد أنه يمثل رمزاً عربياً وإفريقياً وعالمياً مهماً، التخلي بسهولة عن كرسي الحكم الذي تعود على اعتلائه طوال أربعة عقود من الزمن، وأصبح اليوم عرشه مهدداً بالسقوط على غرار الرؤساء الطغاة التي أسقطت عروشهم ثورات الشعوب المحرومة، ولذلك فإنه لن يرحل من كرسي الحكم، «إلا بعد خراب البصرة»، فكانت خلاصته لضباط الجيش الليبي الذين قدموا له النصح بالشروع في وقف حمامات الدم والتخلي عن الحكم، بأنه لا يشعر بالقلق على أرواح الناس، وأنه وحده الذي صنع كيان ليبيا السياسي والاقتصادي وهو الذي سوف ينهيه، مهما بلغت الأمور من مراحل مدمرة.
هذه هي المشكلة الحقيقية التي تعيشها ليبيا في هذا الوقت، فإن المكابرة وتحدي إرادة الشعب، لم تدفع إلا إلى المزيد من فقدان الحكمة وسفك الدماء، وهذا الأمر لا يستحقه الشعب الليبي، الصابر على الظلم والقهر والاستبداد.