عبدالرحمن النعيمي… كفاح الفكر والقلم

في مناسبة تأبين المناضل والكاتب عبدالرحمن محمد النعيمي، نعود بالتذكير بمسيرة حياته الحافلة بالنضال، التي كانت تستهدف صناعة الكتابة والتأليف والتغيير والمقاومة السلمية من أجل وطن لا يرجف فيه الأمل في البحرين، فقد يرى المتابع من خلال نظرة سريعة على الموروث السياسي والثقافي لهذا المناضل والرمز مختلف أساليب حياة التقشف والزهد وتشعب فروع الثقافة والمعرفة والنضال الحقيقي لآخر عمالقة الحركة الوطنية البحرينية، الذين وهبوا حياتهم في سبيل الحرية والديمقراطية والسيادة والاستقلال.

لقد كان النعيمي، أحد أبرز الشخصيات السياسية اللامعة في الساحة البحرينية وعلى مستوى الخليج والوطن العربي، وكان وفياً مخلصاً لواجباته الإنسانية نحو قضايا شعوب العالم برمته، وكان متحدثاً مفوهاً وذا موهبة سياسية فريدة، ومناضلاً شرساً عن مواقفه، وظل طوال حياة النضال أميناً وفياً لمبادئه، ولم يساوم عليها.

وكان النعيمي الذي اشتهر بابتسامته الوديعة وطباعه الشفافة، رجل فكر وقلم، واعتبر الثقافة معركة في ميدان السياسة، والكفاح الثوري من أجل العدالة الاجتماعية والحق، وكان يقرأ أعمال كبار المفكرين والفلاسفة والثوريين حول العالم، وانخرط في دروب النضال والتصدي للقهر في وقت مبكر من حياته خلال مراحل التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي تحت شعار «النضال من أجل الفقراء والعمال والطلاب والفلاحين» التي تنتهك كامل حقوقهم الأنظمة الاستبدادية القمعية، وكان يكتب عن هموم الفقراء والمحرومين، في العديد من المجلات والصحف العربية المرموقة من أبرزها مجلة «الهدف» الفلسطينية، و «الشراع» اللبنانية، وصحيفة «السفير» اللبنانية، وصحيفة «الطليعة» الكويتية، وصحيفة «الثوري» اليمنية، وصحيفة «القدس العربي» الصادرة في لندن، الذي كان يزودها بالعديد من المقالات المهمة والرائعة، حول الأحداث التي شهدتها البحرين على مدى أربع سنوات من عمر الانتفاضة الدستورية في تسعينيات القرن الماضي، وبعد عودته من المنفى القسري نشر مقالات أسبوعية في صحيفة «أخبار الخليج» البحرينية، كانت جميعها في خدمة القضايا الوطنية والديمقراطية وحقوق الإنسان في البحرين.

وكان يؤلف الكتب السياسية والدراسات المتعلقة بالصراع السياسي والاجتماعي في البحرين وعلى مستوى الخليج والوطن العربي، التي تستحق القراءة، ومن أبرزها على الإطلاق (الصراع على الخليج العربي، الطبقة العاملة البحرينية ستفشل قانون أمن الدولة، هجمة أغسطس/آب العام 1975، الحركة الوطنية أمام تحديات مجلس التعاون الخليجي، الأزمة الدستورية، الملفات الساخنة في البحرين، موضوعات الإصلاح السياسي في البحرين، مستقبل الديمقراطية في البحرين ).

وقام بتأسيس دار الكنوز الأدبية المتخصصة بنشر الدراسات والكتب السياسية والفكرية والاقتصادية والعلمية، وكان يشارك في مختلف التظاهرات والاعتصامات والحركات الاحتجاجية المطلبية التي تدعم نضالات شعب البحرين، ليصبح مع الأيام واحداً من أبرز «الشخصيات السياسية الثورية» في البحرين والخليج وعلى مستوى الوطن العربي.

حيث أبدى تعاطفه مع معاناة شعب البحرين خلال حقبة الانتداب البريطاني، وجميع المظالم التي لحقت به في سنوات القمع المعتمة، التي استمرت زهاء ربع قرن من الزمن في ظل فرض قوانين ومحاكم أمن الدولة السيئة الصيت، وسارع في الانضمام في صفوف الحركة الثورية البحرينية، وحركة القوميين العرب، وجبهة تحرير شرق الجزيرة العربية، وجبهة تحرير الخليج العربي، والجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج، التي خاض معها تجربة الكفاح المسلح في وديان وجبال مناطق ظفار، التي شهدت حروباً طاحنة من أجل الحرية والاستقلال، وعاش سنوات طويلة مفعمة بالعذاب والألم والقسوة، ودخل المعتقلات في البحرين التي ضاقت أروقتها وغرفها المعتمة بالمناضلين من أمثاله، وكذلك في المنافي القسرية، ثم صار أميناً عاماً للجبهة الشعبية في البحرين بعد قرار استقلاليتها عن الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج، مبتعدة عن خط النضال الثوري المسلح، لانعدام جاذبيته في زمن التغيرات الجديدة وأفكار السلم وثقافة الحريات والتسامح وحقوق الإنسان، وذلك قبل أن يغادر البحرين إلى المنافي القسرية، في رحلة طويلة استمرت زهاء 40 عاماً، ارتبط مصيرها بمصير الحلم الديمقرطي والعدالة الاجتماعية والدولة البرلمانية الدستورية، الذي لا يزال يشغل هموم الشارع البحريني برمته، إضافة إلى تركيزه على قضايا الشعوب العربية والعالمية في نضالاتها من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وبخاصة قضية العرب والمسلمين الكبرى فلسطين، التي نالت المدى الواسع من اهتماماته القومية، لأنه كان يرى نفسه جزءاً منها مراراً وتكراراً، وساهم في العديد من المؤتمرات العربية والإسلامية والدولية، وكان عضواً في الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، والأمانة العامة لملتقى الحوار الديمقراطي الثوري، وعضو المؤتمر الخليجي لمقاومة التطبيع مع «إسرائيل»، وعندما عاد من المنفى إلى الوطن بعد الانفراج السياسي، رفض جميع الإغراءات والامتيازات المادية والمعنوية التي عرضت عليه كتعويضات عن كل سنوات المنافي القسرية، وأبدى استعداده لتبني تجمعاً وطنياً يضم كافة شرائح وأطياف وتيارات وطوائف المجتمع البحريني، من دون أن يستبعد أي طرف من أطراف العمل السياسي في الساحة البحرينية، أو أن يتخذ موقفاً سلبياً من أية جهة تسعي للاستقلالية الذاتية في طريق التغيير، معتبراً أن من حق الجميع أن يختار سياساته التي يؤمن أنها ستكون مسئولة عن مستقبل الأوضاع التي تعكس إرادة المجتمع.

وكان دائماً على استعداد لأن يشارك الآخرين في الدروس التي تعلمها في الحياة، ولم يكن ذلك ممكناً إلا بعد جهود مضنية تبدل في ظل وجود معارضة مفتتة، وشارع منقسم على نفسه وأوضاع اجتماعية واقتصادية متردية نتيجة سنوات القمع المعتمة التي جاء بها قانون ومحاكم أمن الدولة، ورغم صعوبة هذه المهمة، استطاع النعيمي أن يرسي دعائم أول كيان سياسي معارض في البحرين والخليج، تجتمع حوله كل أطياف المعارضة اليسارية والقومية ومختلف قوى التغيير في البلاد، الذين يتطلعون إلى قيام النظام الديمقراطي التعددي، ومعترف به رسمياً هو جمعية العمل الوطني الديمقراطي «وعد» التي بنت قوة مجدها السياسي من صلابة مواقفها الثابتة والأصيلة اتجاه الدفاع عن قضايا الفقراء والمحرومين من شعب البحرين، وهي تحتل اليوم مرتبة القوة الثانية في المعارضة البحرينية، وشاركت في عدة تحالفات وطنية من أبرزها المؤتمر الدستوري المعارض التي شاركت فيه معظم جمعيات وقوى المعارضة البحرينية.

لم يترك النعيمي طوال مراحل النضال الوطني في البحرين وفي المنافي القسرية، ما يمكن أن يؤخذ عليه، من سلوكيات الحياة السياسية والخاصة، سوى التزاماته الوطنية والقومية والأممية التي كان يدافع عنها بشراسة في كل المحافل العربية والقارية والدولية، وزهده وتقشفه في المسكن والملبس، وكونه رب أسرة نموذجي، بصورة قد تجعلك تعطف على حياته الخاصة المليئة بالزهد والورع واحترام الآخر، حيث لم تغريه مباهج الحياة الدنيا وامتيازاتها الزائلة، حتى صارت شهيته تكره سائر الملذات، وبات يتعاطف مع الفقراء والمحرومين، ويتقرب إلى مختلف فئات وتيارات وطوائف شعب البحرين، وكان على الدوام يمثل عصراً كانت فيه أدوات القمع والقهر والاستبداد مسلطة على رقاب الشعوب الضعيفة، وكانت فيه تيارات وفئات وشرائح سياسية واجتماعية ودينية، تتسابق في صراع محموم على الامتيازات والمغانم والمكرمات، ولم يبقَ منها سوى الجبال الشامخة التي وقفت في وجه الرياح الصرصر، متحدية أدوات القمع والقهر والاستبداد.

ورغم بعض المآخد البسيطة ضده من قبل بعض المناوئين، بعد عودته من المنفي في العام 2001، ومشاركته مع جمعية «وعد» في الانتخابات البرلمانية للعام 2006، كان الرجل، موضع احترام الجميع، وكان داعية للوحدة الوطنية، ورمزاً للاحتجاج السلمي في وجه الإجراءات غير الدستورية، والتوزيع غير العادل للدوائر الانتخابية عبر ربوع البلاد، والتحريض الإعلامي المنهجي ضد مرشحي الحركة الوطنية والإسلامية المقاطعين للانتخابات بسبب عدم شرعيتها الدستورية، ورغم أنه كان واثقاً من فوزه في هذه الانتخابات، إلا أن بعض الجهات الرسمية والأصولية قد تآمرت عليه، وقطعت عليه الطريق الذي كاد أن يصل به إلى قبة البرلمان، ولكنه يظل في زمن الانقسامات وتراجع الخطاب الوطني والقومي ذلك الرجل الصالح من الرجال الذين لم يبقَ منهم سوى القليل.

لقد كان النعيمي رجلاً ثائراً وقائداً وطنياً، استطاع أن ينجح في تحقيق تحالفات سياسية مشهودة في الواقع السياسي البحريني، ولديه اهتمامات وعلاقات خاصة بكافة أحزاب وحركات التحرر على المستوى العربي والعالمي، إضافة إلى اهتماماته بمختلف وسائل النشر، والذين يعرفون النعيمي يصفونه «بكشكول الحياة العامة» بفضل إنجازاته التاريخية في السياسة والفكر والثقافة الثورية وإحساساته العميقة بالطبيعة الإنسانية، ويقولون أن البحرين تحتاج في هذا الوقت بالذات إلى رجل مثل «أبو أمل» في زمن يصعب فيه البحث عن المناضلين الشجعان وسط التغيرات الكاسحة التي تحدث بسرعة البرق في الساحة البحرينية، وعلى مستوى الوطن العربي والعالم.

لقد رحل النعيمي بعد هذه المسيرة الطويلة المضنية والحافلة بأشكال النضال السلمي والمبادىء السياسية الثابتة، والتضحيات الكبيرة، التي تحتاج النخبة السياسية في هذا الوقت بالذات، إلى الاستفادة منها، ولكن ستبقى مآثره عابقة في القلوب وفي الأفئذة، وستفخر البحرين وشعبها بأنها أنجبت رمزاً صامداً في النضال بلغت سمعته وشعبيته مختلف بقاع العالم.

Loading