قواعد الأنظمة العادلة في أوروبا بدأت تتغير

قد لا يكفي أن تكون أوروبا قلعة الحريات الديمقراطية والحكم الدستوري وحقوق الانسان، لكي يقال أنها الأكثر تقدماً وتطوراً في تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية والتنمية البشرية، وأنها لاتزال تمثّل القلعة الصامدة في وجه «الاعصار الاقتصادي الكاسح» التي تسببت به الأزمة العالمية.

فمن بعيد تبدو أوروبا وكأنها مازالت تحتفظ بحيوية قوانينها وأنظمتها الاجتماعية والاقتصادية، التي أقرتها دساتيرها المتقدمة والعصرية على مدى العقود البعيدة الماضية، ولكن عندما يكتشف المراقبون كل ما هو مخفي من إجراءات وقوانين جديدة فرضتها ظروف الأزمة المالية العالمية، تصبح الصورة مقلقة ومخيفة.

فغالبية الأنظمة والقوانين التي سخرت من أجل سعادة ورفاهية المواطنين، قد تغيّر بعضها بالكامل، ولايزال البعض الآخر يخضع لتعديلات قد تكون مجحفة، وقد تتعارض مع طموحات التنمية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان المكرّسة والمجسدة في الاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات الدولية ذات الصلة بالحريات الديمقراطية وحقوق الانسان.

وفي حقبة سنوات ما قبل الأزمة المالية العالمية، كان المواطنون في غالبية الدول الغربية الثرية، يعيشون في «بحبوحة» الأنظمة والقوانين الاجتماعية والاقتصادية العادلة، التي تشدّد على مبدأ وأهمية تكافؤ الفرص الاجتماعية والعمل والتوزيع العادل للثروة الوطنية وجودة الخدمات العامة ونوعية الفرص التعليمية والرعاية الاجتماعية والصحية، وخصوصاً للمرضى وكبار السن، الذين كانوا يحظون دائماً برعاية حكومية خاصة. وخلال تداعيات الأزمة المالية العالمية، أخذت معظم هذه المكتسبات والامتيازات تفقد حساسيتها المشروعة، فقد ألغيت أو عُدّلت بعض القوانين المتعلقة بالمساعدات والمعونات المالية الحكومية بالنسبة للعاطلين والمتقاعدين وطلاب الجامعات والمعاهد الرسمية. وتوسّعت موجات البطالة عن العمل بعد تسريح جموع هائلة من العمال والموظفين في مختلف المؤسسات الرسمية والأهلية، وزادت نسب الضرائب على مختلف الخدمات العامة، وتضاعفت أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية اليومية، وارتفعت إيجارات السكن والمحال التجارية وتكاليف السفر والسياحة، بحسب ما أظهرت الدراسات والتقارير الاجتماعية والاقتصادية، التي أصدرتها معظم مراكز البحوث في أوروبا. ووصل الأمر إلى حد صدور دعوات برلمانية وسياسية رسمية عديدة من أجل التقشف وتخفيف الأعباء المرهقة للموازنات الوطنية العامة حتى لو كان ذلك يتجاوز نصوص الدساتير.

في هذا السياق، قالت رئيسة مكتب الاتحاد الأوروبي في منظمة «أوكسفام» نتاليا الونسو، في تصريحات سابقة للصحافة أن «التخفيضات الشديدة للغاية في الأمن الاجتماعي والصحة والتعليم، وتدنّي حقوق العمال والضرائب غير العادلة تجعل ملايين الأوروبيين محاصرين في دائرة واسعة من الفقر يمكن أن تستمر لأجيال، وأن الأمر ربما يستغرق أكثر من ربع قرن من الزمن كي يستعيد الأوروبيون مستويات المعيشة التي تمتعوا بها قبل خمس سنوات على الأقل من بداية الأزمة المالية.

وفي ظل هذا الوضع الاقتصادي الكارثي، اختفت بعض القيم والتقاليد الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية، التي ظل يفتخر بها المواطن الأوروبي على مدى عقود، والتي تحرّر من خلالها من سطوة الأنظمة الدكتاتورية والشوفينية والفاشية، وشقّ طريقه في بحور من الدماء من أجل أن ينال الحرية والديمقراطية والحقوق البشرية المشروعة وحياة الحضارة العصرية. وراحت تحل محل كل تلك القيم والمبادئ الإنسانية الرائعة، ثقافات النزعة الانتهازية والمادية والكسب السريع المشروع وغير المشروع، وإحياء القومية الوطنية العصبوية، ومعاداة الأجناس والأعراق والمعتقدات والديانات الأخرى، وتضييق الخناق على حريات المهاجرين واللاجئين لأسباب سياسية وإنسانية، ووضع العراقيل والأسوار الشائكة في وجه الفارين من بطش أنظمتهم السياسية الاستبدادية القمعية أو من وطأة البطالة والمجاعة.

ومن جانبها أخذت بعض حكومات الدول الغربية تنظر بعين الاعتبار إلى التأثيرات السلبية البليغة عن اقتصادياتها، وضرورات احتياجاتها إلى ضخّ الأموال من أجل دعم وتعزيز مستويات خزائنها الخاوية أو شبه الخاوية، فأصبحت تتسابق في صراع محموم على تصنيع الأسلحة والذخائر الفتاكة، وتقوم ببيعها وتصديرها إلى أنظمة سياسية حول العالم تعترف هي نفسها بأنها أنظمة دكتاتورية ظالمة وقاهرة لإرادات شعوبها، وبأن كل هذه الأسلحة سوف يتم استخدامها بصورة وحشية عندما يتطلب الأمر للقيام بسحق ثورات الشعوب المناضلة من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

Loading