أزمة الرسوم الكاريكاتورية مستمرة في الدنمارك
لو كان رئيس الوزراء الدنماركي الأسبق اندرس فوغ راسموسن، تغلب على عواطفه وقناعاته الشخصية وتعامل مع أزمة الرسوم الكاريكاتورية بطريقة مختلفة وإيجابية لكان يمكن أن يجنب الدنمارك هول العاصفة، التي تعرضت لها وقت الأزمة الدبلوماسية والاقتصادية، التي أعقبت نشر الرسوم الكاريكاتيرية في العام 2005، ويحقق نقاطاً مهمة لصالحه. ولو قبل آنذاك بالاجتماع بأحد عشر سفيراً مسلماً في البلاد بعد أيام قليلة من تلك الأزمة، ووافق على دعوة المعارضة لإجراء تحقيق في أسلوب معالجة الحكومة للأزمة، لما تطورت واتسعت مساحة التظاهرات الغاضبة والعنيفة التي سادت مختلف عواصم الدول الاسلامية وأحرجت الدبلوماسية الدنماركية على المستوى العالمي.
هذا ما صرح به وزير خارجية الدنمارك الأسبق بيتر ستيغ مولر بشأن أزمة الرسوم المسيئة للنبي محمد (ص) التي نشرتها صحيفة «يولاند بوستن» الدنماركية في أكتوبر/ تشرين الأول 2005 وصورت فيها النبي محمداً وهو يلبس عمامة خضراء ممتلئة بالصواريخ والمتفجرات والقنابل، أو وهو يصلي في أوضاع مهينة للغاية.
جاء حديث الوزير الى برنامج السلسلة الوثائقية لقناة «راديو الدنمارك» عن الحرب والسلام والرسوم الكاريكاتورية، الذي بث في (26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013) وأثار دهشة الرأي العام الدنماركي الذي وقف داعماً قويّاً لموقف الحكومة المتصلب تجاه معالجة أزمة الرسوم، والذي حمل شعار «حرية التعبير لا يمكن المساومة عليها» ووصفه المدعي العام الدنماركي بـ «المبدئي»؛ لأن القانون الذي يستخدم لتوجيه تهم بسبب انتهاك حرمة الأديان لا يمكن استخدامه ضد ما تنشره وسائل التعبير في الدنمارك.
في هذا السياق، وعلى امتداد أكثر من ثمانية أعوام مضت على بروز هذا الحدث، كانت أزمة الرسوم تمثل قضية سياسية واجتماعية لا تنتهي من الجدل بين مختلف أوساط المجتمع الدنماركي وخصوصاً السياسيين والمثقفين وأعضاء الجاليات المسلمة، الذين يبدون دائماً امتعاضهم واستنكارهم لنشر الرسوم واعتبارها استهانة شديدة لمشاعر أكثر من مليار وثلاثمئة مليون مسلم حول العالم، وقرابة 200 ألف مسلم يعيشون في الدنمارك.
أوساط كثيرة في المؤسسات الاسلامية في الدنمارك، أبدت ارتياحها لتصريحات وزير الخارجية الدنماركي الأسبق بيتر ستيغ مولر، لجملة أسباب، من أهمها (تفهم) الدبلوماسية الدنماركية للأوضاع النفسية والمعنوية، التي عاشتها شعوب العالم الاسلامي في ظل أزمة الرسوم المسيئة و (اعترافها) ببعض الأخطاء التي ارتكبتها حكومة الوزير الأول الأسبق اندرس فوغ راسموسن، في قضية الرسوم، رغبة منها في عدم تجاوز قوانين حريات الرأي والتعبير المكرسة في نصوص الدستور الدنماركي، واعتبارها بمثابة نقطة انطلاق جديدة وعتبة لتحرك فاعل وربما يكون دائماً وممتدّاً إلى نواح مختلفة للتعامل الصادق والجاد مع القضايا المهمة التي تهم المسلمين في الدنمارك وحول العالم.
كل ذلك للوصول إلى رؤية سليمة وعقلانية للواقع شبه المأساوي الذي تعيشه الجاليات المسلمة في الدنمارك في ظل تنامي موجات الكراهية ضدها من قبل الكثير من قوى اليمين المتطرف والأحزاب العنصرية والفاشية التي بدأت تنشط في السنوات الأخيرة، وراح بعضها يصعد في سلم الحياة السياسية البرلمانية والبلدية، والذي ربما يزداد مع الزمن، إذا لم تتخذ الحكومات الديمقراطية والرأي العام الدنماركي المنفتح على مختلف الثقافات والأديان إجراءات وقائية للتصدي لها.
إن عدم الأخذ بكل هذه المسائل الجدية من الاجراءات يمكن أن يعرض الدنمارك في المستقبل البعيد والاستراتيجي، للكثير من مكامن الخطر على أوضاعها من القضايا المتعلقة بحقوق الانسان واحترام حريات الرأي والديانات، ويحرمها من أي مشاريع للتعاون السياسي والاقتصادي المشترك مع العالم الاسلامي برمته.
وتعتبر الدنمارك دون شك، واحدة من بين أكثر الدول والممالك المتقدمة في العالم في مجالات الديمقراطية وحقوق الانسان وحريات التعبير والرأي والضمير. وهي مازالت كذلك بالفعل، لكن هل تبقى كما هي اليوم إذا لم تراع الحقوق والثقافات الاخرى القائمة في مجتمعها؟، أو إذا دفع بها الخوف من الآخر الى مزيد من التطرف وركوب موجة العنصرية السائدة في أوروبا عموماً؟