الدنمارك… تصدعات جدار الهوية الوطنية
الدستور والإرث الملكي واللاجئون والعنصرية، كلها قضايا مهمة وشائكة، فتحت جدلاً واسعاً وحساسيات وطنية عميقة داخل المجتمع الدنماركي برمته خلال الأشهر والسنوات الماضية.
الجدل قد حصل بعد أن تكررت وتوسعت مطالب الأحزاب والقوى السياسية والفكرية ذات النزعة العنصرية والشوفينية، سواءً داخل البرلمان أو من خلال التصريحات الصحافية والإعلامية المكثفة، المطالبة بإجراء تعديلات قانونية وإجرائية ودستورية على بعض الأنظمة الحساسة المعمول بها في البلاد، التي تكاد، بحسب تصريحات بعض قيادات قوى المعارضة الدنماركية، أن تعمل على تشويه «النموذج الأمثل» لتاريخ البلاد الثقافي والاقتصادي والاجتماعي الحضاري والتقاليد التي كانت سائدة وموروثة منذ الأزمان الغابرة إلى العهود الحديثة.
التصويت على مشروع قانون الجنسية الدنماركية للدنماركيين الجدد (الأجانب) الذين يستوفون الشروط المطلوبة لحيازة الجنسية الدنماركية، الذي تقدمت به أحزاب التكتل الحاكم مؤخراً إلى البرلمان، عمّق الجروح ووسّع الفجوة بين المدافعين عن الدستور وبين المعارضين المطالبين بالتغييرات الجذرية الضرورية، في الأنظمة والإجراءات المتعلقة بالاقتصاد والأجانب والإرث الملكي في البلاد .
الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية الممثلة اليوم في حكومة رئيسة الوزراء هيلة توررننغ سميث، عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ترى أن من أهم واجبات الدولة الديمقراطية الدستورية المحافظة على «نموذج النظام السياسي» السائد اليوم في البلاد، والتمسك بنصوص الدستور التاريخية، التي تعطي الحق لجميع المواطنين الأصليين والجدد على حد سواء، التمتع بالحريات العامة، واقتسام الثروة الوطنية من دون تمييز أو تفضيل، والاعتراف بحقوق الأقليات القومية الثقافية والفكرية والاجتماعية والدينية وغيرها من المكتسبات الوطنية الأخرى المكرّسة في نصوص الدستور، ورفض التغيير الجذري والتمسك بالإرث الملكي العريق، التي تطالب ببقائه الغالبية الشعبية، ووضع بعض التعديلات الطفيفة عليه، لكي ينسجم تماماً مع التغيرات والتحولات الجديدة، التي حدثت في العالم برمته.
وترى رئيسة الحكومة هيلة توررننغ سميث، أن نسبة المهاجرين وعائلاتهم، التي بلغت بحسب الإحصاءات السكانية للعام 2010 أكثر من 548,000 شخص وتمثل نسبة 9.9 بالمئة من سكان الدنمارك البالغ تعدادهم قرابة 6 ملايين نسمة، يجب وضعها في الاعتبار كجزء لا يتجزأ من حياة المجتمع الدنماركي، ومن اكتساب كافة الحقوق الأصيلة والمشروعة، التي يستحقها هؤلاء.
لكن الأحزاب والقوى اليمينية المتطرّفة والعنصرية، التي ما برحت تعارض هذا التوجه، تصر على كل مواقفها الرافضة والمتشددة، وترى بأن البلاد، في ظل تلك القوانين والإجراءات، تسير في الطريق الخطأ، وفي سبيل تغيير وتشويه صورة الهوية الوطنية الأصيلة، والمتمثلة في التاريخ الثقافي والاجتماعي التقليدي، نتيجة «طغيان» التواجد الأجنبي والاختلافات الواضحة في مستوى الثقافات والقيم والتقاليد والعادات الأخرى «الدخيلة» على المجتمع، وأن ما تكرسه أوضاع التراث الملكي القديم يمثل معضلة في طريق تطور الحياة الديمقراطية الحقيقية والواقعية.
وفي جميع استطلاعات الرأي التي أجرتها القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة والعنصرية، على امتداد ثلاث سنوات سابقة، أظهرت النتائج، بأن هناك فئات وشرائح عديدة تعارض القوانين والإجراءات المتساهلة في قضايا الأجانب بشكل شامل، وأن النظام الملكي أصبح عبئاً على موازنة الدولة الاقتصادية، كما أصبح يتعارض تماماً مع مختلف قيم الديمقراطية الحقيقية الحديثة، حيث يلاحظ الآن بحسب نصوص الدستور الدنماركي، أن الملك أو الملكة، لا تتم محاسبتهما على أفعالهما سواء داخل البرلمان أو أمام الجمهور، ويحظيان بثقة خاصة وبحصانة واسعة ومطلقة.
ضمن هذا المشهد، تبقى موضوعة الجدل والحساسية الوطنية قائمة لا محالة، بين من يتمسك بالإرث التاريخي لأقدم الممالك العالمية، وبين من يعارض التوجهات القديمة. ولكن الدنمارك سوف تبقى بعيدة كل البعد، عن أن تكون مسرحاً لصراعات دموية أو عنيفة، على غرار ما يحدث في المجتمعات الأخرى، التي لم تبلغ بعد مستوى التطور والتقدم الحضاري والانساني، على أساس أن الشعب الدنماركي معروف بأنه من أكثر الشعوب الأوروبية تسامحاً وحرصاً على مرتكزات الوحدة الوطنية. وما يمكن قوله في هذا الشأن، هو أن الجدل أصبح واقعاً حتمياً يؤرق حياة مجتمع كان منسجماً تماماً مع واقعه، ويحرص دائماً على بناء الثقة المشتركة في المجتمع والحوارات الواقعية المسئولة وتماسك الجبهة الداخلية.