أوروبا… تتذكر أهوال الكارثة الكبرى في التاريخ
تدشن الدول الأوروبية العام 2014 إحياء الذكري المئوية للحرب العالمية الأولى، التي أنهكت كاهل المجتمعات الأوروبية سياسياً واقتصادياً ومعنوياً، حيث تسببت هذه الحرب الدامية والمؤلمة، في سقوط 20 مليون إنسان، وأعدادٍ هائلةٍ من الجرحى والمعاقين والمشردين والمفقودين. وسرّعت بانهيار أربع امبراطوريات كانت شامخة ومهيبة على مدى عقود من الزمن (الألمانية والنمساوية- المجرية والروسية والعثمانية)، بعد أن سحقتها وطأة الكارثة المدمرة بكل أشكالها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والمعنوية، والتي قدرت خسائرها بالمليارات، إضافة إلى تغيير صورة الخريطة العالمية.
ويأتي الاحتفال بمناسبة مرور قرن على الكارثة الكبرى في التاريخ، التي شاركت فيها 36 دولة، واستخدمت فيها كافة أنواع الأسلحة الفتاكة بما في ذلك السلاح الكيماوي الذي استخدم لأول مرة في التاريخ، وسط انقسامات حكومية وشعبية وأزمة اقتصادية خانقة تحبس أنفاس الطبقات المتوسطة والفقيرة في عموم القارة الأوروبية، التي لاتزال تعصف بها التناقضات في تنظيم الحركة الاقتصادية والتجارية العامة ومشاكل الهجرة والاضطرابات العمالية وصحوة الحركات القومية المتشددة والعنصرية.
البريطانيون والفرنسيون، كانوا أبرز المتحمسين لإحياء الاحتفال بالذكرى الذي بادرت بإعلانه فرنسا، حيث يعتبرون الانتصار على النازية الألمانية أمراً ضرورياً ومحقاً وعادلاً، ويستحق كل هذا الاهتمام والتفاخر بجميع التضحيات الكبيرة التي قدمتها شعوبها، على الرغم من الأثمان الباهضة التي صرفت في سبيله وظلت ترهق اقتصادها على إمتداد سنوات طويلة، وتعريف الأجيال الجديدة بكل ما فعلته هذه الحرب من خراب ودمار، خصوصاً أنهم خصّصوا ميزانية هائلة للأحداث المرتبطة به.
وفي سراييفو التي انطلقت منها الشرارة الأولى للحرب، بعد عملية الاغتيال التي تعرض لها ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانسوا فرديناند على أيادي المتعصب القومي الصربي البوسني جافريلو برانسيب، أقيمت فيها بعض المهرجانات الثقافية والإعلامية الأوروبية المتعلقة بالحرب.
وكذلك روسيا التي ورثت (الاتحاد السوفياتي السابق) الذي كان أحد الأعمدة الرئيسية في تحقيق الانتصار العظيم وسحق النازية؛ وألمانيا التي لايزال يدفعها الشعور بالذنب، من تصرفات قادة البلاد النازيين، خلال الحرب العالمية الثانية؛ وإيطاليا التي فرضت عليها الطغمة الفاشية الحاكمة (الموسولونية) الدخول في محور الحرب؛ وتركيا العثمانية المتغطرسة، التي لم تعر أي اهتمام لاحتفالات الغرب بهذه المناسبة.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قال عن الحدث، أنه مناسبة ربما تبعث على الشفقة، وتعيد إلى الأذهان ذكرى نزاع دموي تسبب في حدوث كوارث بشرية واقتصادية هائلة في أوروبا والعالم، وتم نسيانه (ظلماً) في كل سنوات العهد السوفياتي السابق، الذي (خان المصلحة الوطنية العليا) باستسلامه للنازية الألمانية في العام 1917، معترفين بعدم جدوى تمجيد (الكارثة الدموية) وإقامة الاحتفال في الوقت الحاضر.
وفي رأي العديد من الخبراء حول هذه الاحتفالات، يقول الخبير الدولي في الحربين العالميتين جون هورن، أنه بعد مضي قرن كامل على الحرب لايزال الأوروبيون يفكّرون بهذا الحدث الذي تجاوز حدود ذاكرتهم الوطنية. أما المفكر الألماني الأستاذ في جامعة دوسلدروف والخبير في الحرب العالمية الأولى غيرد كرومايش، فاعتبر هذه الذكرى لحظة إبراز الهوية المختلفة لكل بلد، حيث لم تكن هناك حساسية أوروبية مشتركة تبقى لأوروبا عملية بناء عقلانية.
يبقى القول بأن الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب، التي تقيم كل هذه الاحتفالات المبهرجة، لم تسجل أية قواسم مشتركة بينها على المستوى السياسي، ولم تنجح في إحداث تغيير ينسي ما تبقى من الناس الذين عاصروا ويلات الحرب من كل ما كان من فظائع مهولة ومخيفة، وإن كانت قد نجحت في تذكير الأجيال اللاحقة، التي لم تعرف الكثير عن تلك الأهوال المدمّرة، التي عانت منها الأجيال التي عاصرت هذه الكارثة التاريخية، ولم يكن بوسعها تبديد الشكوك التي لاتزال تنتاب المجتمعات الأوروبية حول مصير الوحدة الحقيقية المنشودة.