حول الثورات الاجتماعية في بلدان الربيع العربي
ثورات الجياع أو ما يحلو للبعض تسميتها بـ «ثورات العدالة الاجتماعية والديمقراطية والكرامة» التي شهدتها بعض العواصم العربية في فترة ما سمي بـ «الربيع العربي» قبل ثلاث سنوات مضت، ومن قبلها «الثورات الشعبية المخملية» التي اجتاحت عواصم كتلة دول أوروبا الشرقية كافة ذات الحكم الشيوعي الشمولي، التي واجهت أنظمة سياسية «فولاذية» بقوة وجرأة وشجاعة من أجل نيل كامل حقوقها المدنية وحرياتها ومكتسباتها الوطنية، واعتبرتها كل هذه الشعوب الثائرة كما لو أنها قدر محتوم في الوصول إلى قمة السعادة والرخاء الاقتصادي وتحقيق الأمن والاستقرار…
كيف تبدو كل هذه الثورات بعد نزيف الدماء وعدم تحقيق الرخاء والاستقرار في العواصم العربية، والبطالة والفقر وغربة السياسة والاقتصاد في عواصم دول الكتلة الأوروبية الشرقية؟
الواضح أنه بعد ثلاث سنوات على ثورات الربيع العربي، مع كل ما عرفته على ذلك النحو المأساوي من حمامات الدم وضحايا الاعتقال التعسفي والملاحقات الأمنية والاغتيالات السياسية والنفي الاختياري والقسري وتزايد وتائر البطالة والفقر، ليس من السهولة بمكان أن تبلغ تطلعات الشعوب العربية التي ناضلت وقدمت مختلف التضحيات الكبيرة من أجل العدالة الاجتماعية والنظم الدستورية والديمقراطية والحرية، المستويات المنشودة، بعد أن تحوّلت فيها الأنظمة السياسية الجديدة التي تسلمت الحكم بعد سقوط «الدكتاتوريات» الطاغية والمستبدة، إلى أدوات تسلط وقمع مطلق واحتكار السلطة والاقتصاد، في رغبة جامحة نحو التمسك الشديد بكراسي الحكم، بدلاً من افتتاح عهود جديدة تنسي الناس المآسي السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي فرضتها عليهم فرضاً الدكتاتورية التي سبقتها.
فلقد تم اكتشاف أن (تحت السواهي دواهي)، بحسب التعبير الشعبي، وتحت ذرائع حماية الثورة وتكريس وتعزيز الأمن والاستقرار وتعويض الناس عن كل ما فاتهم من ثراء ومن مكاسب وطنية عديدة؛ هناك سلطة استبدادية قمعية؛ وهناك تجار وسماسرة يمتصون دماء الفقراء ويتصارعون على مصادر الثروة والجاه؛ وهناك الحاجات الأنانية والانتهازية المفرطة التي يحاول الحكام الجدد من خلالها البقاء في سدة الحكم، لكن طعم السعادة والرخاء والاستقرار ظل مرير النكهة في هذه الدول، ووضع المواطن المغلوب على أمره فريسة أطماعها وأحلامها وتطلعاتها.
في تونس لاتزال مسارات التحول إلى الديمقراطية تهددها صراعات الأحزاب الحاكمة مع نفسها والمعارضة، وهشاشة الأمن والاستقرار والاغتيالات السياسية التي طالت الوطنيين التقدميين، والتظاهرات الاحتجاجية المطالبة بتوفير الفرص الاجتماعية والعمل في مختلف مناطق البلاد، التي تفتقد إلى أبسط الخدمات الاجتماعية الضرورية العامة.
وفي مصر استمرت الاضطرابات السياسية والاجتماعية تحث الخطى بعد الثورة واتخذت طابعاً دموياً في صراع قوى الأمن والجيش مع جماعة الاخوان المسلمين بعد عزل الرئيس محمد مرسي وشن حملات الاعتقال في صفوف قادة الجماعة وقواعدها وأنصارها، حيث قتل في ذلك الصراع قرابة 2500 شخص في مختلف المحافظات المصرية سواءً بواسطة رصاص قوات الامن والجيش أو بين المؤيدين للحكومة الجديدة والمناهضين لها. ولايزال المواطن المصري يكابد من أجل توفير لقمة العيش والبحث عن الأمن والاستقرار.
أما في ليبيا فأصبحت الاغتيالات السياسية عملة يومية رائجة بين الفصائل المتناحرة والمتصارعة على سدة الحكم والمتحفزة للسيطرة على ثروات البلاد النفطية، ناهيك عن طموحات الانفصال التي تطالب بها بعض الولايات والقبائل الليبية، حتى بلغت ذروة الاغتيالات إلى مستوى لا يطاق، حيث قدرت معظم المصادر سقوط أكثر من 700 شخص من ضحايا القتال بينهم عناصر من قوات الأمن والجيش ورجال الدين والقضاة والنشطاء السياسيين والإعلاميين خلال أعوام ما بعد الثورة.
وفي اليمن البلد الوحيد الذي تم فيه التوافق بين المعارضة والسلطة على الانتقال السلس إلى سدة الحكم وتغيير الوجوه المشبوهة في السلطة، ورغم ذلك لاتزال هناك عوائق كثيرة تهدد مشروع المصالحة الوطنية بعد انغلاق أبواب الحوار الوطني وتزايد عمليات الاغتيال السياسي ومطالب الانفصال بين محافظات الجنوب والشمال، واتساع رقعة الفقر لدى غالبية الشعب اليمني. وفي بعض البلدان العربية التي ثارت شعوبها من أجل العدالة الاجتماعية والديمقراطية والحرية لاتزال تطلعات وأحلام هذه الشعوب تصطدم بتحديات ومقاومات عنيفة من قبل الأنظمة الحاكمة، التي تبدي عدم الرغبة في الاصلاح الحقيقي والجوهري