الأزمة الأوكرانية وأبعادها الدولية

بالطريقة نفسها التي تحاول خلالها الأنظمة السياسية الاستبدادية قمع التظاهرات الاحتجاجية المطلبية في بلدانها، استخدمت السلطات الأوكرانية القوة المفرطة ضد الجماهير الحاشدة، التي تجمعت في «ميدان الاستقلال» وسط العاصمة كييف، إحتجاجاً على الاجراءات الجديدة المقيدة للحريات، التي أقرها مؤخراً البرلمان الأوكراني، للحيلولة دون توسع الاحتجاجات، التي بدأت في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2013 بعد رفض الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتس، التوقيع على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي تحت الضغوط الروسية المكثفة.

وتحت ذريعة تنفيذ بنود القانون الجديد، الذي يمنع المتظاهرين ارتداء خوذات وأقنعة خلال التظاهرات وحظر اقتحام المباني ونصب الخيام ومكبرات الصوت في الأماكن العامة من دون تراخيص مسبقة، وفرض غرامات مالية باهضة وعقوبات بالسجن لكل من يحاول الإخلال بالأمن ويتجاوز حدود القانون، تنتهك السلطات الأوكرانية حقوق المواطنين وحرياتهم في التجمع وفي التعبير عن آرائهم وتطلعاتهم المشروعة، التي كفلها الدستور الأوكراني، وأقرتها كافة المعاهدات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان.

وحتى لو استطاعت السلطة الأوكرانية تنفيذ بنود القانون الجديد، الذي ينتهك كافة الحريات، والذي وصفه رئيس الوزراء الأوكراني مايكولا أزاروف، بأنه «الوسيلة الوحيدة الرادعة» التي تضمن الدفاع عن سيادة الدولة وحماية نظامها، ضد «استفزازات» المحتجين وممارسة أعمال التخريب الممنهجة في مختلف مناطق الاحتجاجات وأمام بوابات دوائر الدولة الرسمية، فإنه من المستبعد حتى في ظل استخدام القوة المفرطة، أن تنهار معنويات قوى المعارضة الأوكرانية وأنصارها. فهي مصممة بقوة على شق الطريق الصعب الذي بدأته من أجل نيل حقوقها ومطالبها، وأن تغادر الجماهير الحاشدة، التي ضاقت بها ساحات وشوارع العاصمة كييف، رغم قسوة القمع وسقوط بعض الضحايا وحملات الاعتقال التعسفي وزمهرير الشتاء القارس.

ولكن ذلك لا يخفي أيضاً حقيقة أنه لم تكن لدى البعض القدرة على الصمود في وجه الآلة العسكرية الضخمة، التي مابرحت تتصدى لهم، ولا الاكتراث بالوعود التي يقدمها الغرب من أجل مساعدتهم والدفاع عنهم، في الوقت الذي لا تبدو أن هناك أية بادرة حسن نية من قبل السلطة الأوكرانية في تخليها عن ممارسة النهج القمعي ضد من تعتبرهم «خارجين على القانون» بتحريض واضح من الغرب، وذلك على الرغم من كافة دعوات الحوار المسئول، التي يطلقها في كل مناسبة رئيس البلاد.

وأكثر من ذلك، بحسب ما صرح به بعض قادة المعارضة الأوكرانية، فإن القوات الحكومية لم تكن فقط خرجت عن السيطرة في حفظ الأمن، بل استخدمت أيضاً أعداداً هائلةً من البلطجية (التيتوشكي) لمساندتها والدفع بها في أوساط المحتجين لإثارة الشغب وإقامة الحواجز وتخريب الشعارات المرفوعة، وذلك من خلال دعمهم بالأموال وبعض الإغراءات المعنوية، ولكن رئيس الوزراء مايكولا أزاروف رد على بعض هذه المزاعم بالقول أن المعارضة تغذي الأحداث وتتلقى تعليماتها من حكومات الغرب والولايات المتحدة وتدفع بـ «الإرهابيين إلى الشارع».

وعلى صعيد ردود الأفعال الغربية المتعاطفة مع المحتجين، وكذلك الروسية المؤيدة للرئيس فيكتور يانوكوفيتس وحكومته، حول ما تشهده البلاد من تطورات خطيرة، تحدثت البيانات الصادرة عن معظم الحكومات الأوروبية، وتحديداً البيان الصادر عن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، عن القلق البالغ تجاه ما تقوم به الحكومة الأوكرانية من انتهاكات صارخة ضد المحتجين، وعن قيام الحكومة بوضع العراقيل والحواجز في وجه الإصلاح الحقيقي الذي يطالب به الشعب الأوكراني. في الوقت الذي تستمر فيه بيانات الحكومة الروسية الداعمة للرئيس يانوكوفيتس بإعلان تأييدها لكافة الاجراءات التي تتخذها الحكومة الأوكرانية، من أجل درء المخاطر الكبيرة التي تتعرض لها أوكرانيا في هذا الوقت بالذات، من خلال «الاستفزازات» المتكررة من جانب حكومات الاتحاد الأوروبي.

وأما بشأن الإدارة الأميركية، فقد عبر بيان وزارة الخارجية، عن قلق الولايات المتحدة من قرار السلطات الأوكرانية التصدي للاحتجاجات في ميدان الاستقلال بشرطة مكافحة الشغب والجرافات، بدلاً من احترام الحقوق الديمقراطية والكرامة الإنسانية. وشدّد البيان على أهمية تجنب العنف، ودعا الحكومة الأوكرانية إلى الاستجابة لتطلعات الشعب الأوكراني.

والواضح أن هذه الأزمة المعقدة، التي تواجه أوكرانيا في هذا الوقت الصعب والحساس، سوف تضع البلاد، التي كانت تشهد العديد من الاضطرابات السياسية والمشاكل الاجتماعية منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي السابق في 16 يوليو/ تموز 1990، في دوامة صراع محتدم محوره الغرب والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الروسي.

Loading