فنزويلا بين الحرب والسلام

لعبت عمليات القتل والاعتقالات الواسعة النطاق، التي شهدتها فنزويلا خلال التظاهرات الطلابية منذ مطلع شهر فبراير/ شباط 2014، دوراً بارزاً في تأجيج الأوضاع الداخلية، وتحفز القوى الخارجية للتدخلات المباشرة وغير المباشرة في الشأن الداخلي للبلاد، بعد اشتداد ضراوة القمع والعسف العام.

ولكن الأسباب الرئيسية والأكثر أهمية في هذه التطورات الخطيرة، تتركز في قضايا وطنية حساسة وملحة من أبرزها استمرار التضخم القياسي الذي تجاوزت نسبته 57 في المئة، والبطالة والنقص الحاد في المواد التموينية والغذائية الضرورية، وعجز السلطة عن مواجهة تحديات الجريمة والفساد، ورفض الدعوات المطالبة بتحقيق الإصلاح الحقيقي والجوهري، التي ظلت المعارضة الفنزويلية متمسكةً بها منذ فترة حكم الرئيس الراحلِ هوغو تشافيز، إضافةً إلى التطلعات الخارجية لاحتواء جميع مصادر القرار في البلاد، سواءً من جانب الولايات المتحدة الأميركية أو روسيا.

قبل انتخاب خليفة الرئيس الراحل هوغو تشافيز، الرئيس الحالي للبلاد نيكولاس مادورو، منذ أكثر من عام، لم تكن وتيرة الأوضاع في الداخل تنتظم بشكل مستقر، ولم تتردد القوى الخارجية سواءً من جانب واشنطن أو موسكو، وكذلك الدول الأخرى، التي مازالت تحتفظ بخصومات سياسية أو عقائدية مع تشافيز، تصب الزيت على نار الفتنة والسعي لتسعير الأحداث، وجعل البلاد تعيش بصورة دائمة على صفيح ساخن من الاضطرابات والتوترات العميقة.

يقول المعارضون للرئيس مادورو، أنهم كانوا يأملون بأن يحمل عهد الرئيس الجديد للبلاد المزيد من الأمن والاستقرار، والعمل على إزالة المشاكل المترسبة في عهد سلفه، وتحقيق الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتخفيف الرقابة عن وسائل الأعلام وإطلاق الحريات العامة، وتحسين مستويات المعيشة اليومية للفقراء، خصوصاً أن البلاد تعتبر واحدة من أغنى بلدان العالم حيث تمتلك احتياطياً نفطيا كبيراً. ولكن الناس اصطدموا بأن حقيقة الرخاء والاستقرار قد تلاشت وتحطمت أمام قدرة النظام الجديد على احتكار السلطة ومراقبة الناس وتكتيم الأفواه، وتوسيع حملات الاعتقال التعسفي وتشديد الرقابة الأمنية على مختلف وسائل الإعلام والصحافة وخنق الحريات.

في المقابل تقول الحكومة أن كل ما كان يحدث في السابق، وكذلك المرحلة الراهنة من توترات ومشاكل كثيرة، إنّما هي من تدبير قوى محلية وخارجية تحاول زعزعة الاستقرار والأمن في البلاد، وتعيدها إلى واجهة الانقلابات العسكرية المعادية للديمقراطية والنظام الاشتراكي السائد، الذي ظلّ يطرح على الدوام إمكانات حقيقة الرخاء والأمن والاستقرار والعدالة الاجتماعية، والتصدي لجميع القوى المناهضة للديمقراطية والاشتراكية حول العالم. ولذا فإن ما تشهده فنزويلا في هذا الوقت هو تكرارٌ للمحاولات الامبريالية لتقويض النظام الاشتراكي ودعم محاولات قوى المعارضة المحلية، التي تفتعل الاضطرابات والاحتجاجات، وتمارس العنف كوسيلة وحيدة لإسقاط الحكم.

وتصر قوى المعارضة على أنها لن تعود لتطبيع الأوضاع إلا بعد تحقيق المطالب الاجتماعية والاقتصادية المشروعة، وإطلاق سراح المعتقلين والموقوفين خلال فترة الأحداث، ومحاسبة المتسببين في قتل المتظاهرين السلميين ورفع الرقابة عن وسائل الإعلام والحريات.

والحكومة الفنزويلية مصممة بدرجة مماثلة على استمرار مواجهتها الأمنية ضد ما تطلق عليهم «المخربين وعملاء الخارج»، والعمل على اتخاذ المزيد من الاجراءات لمواجهة «التخريب الشعبي» من قبل أنصار المعارضة بكافة الوسائل الدستورية والقانونية.

وحتى الآن، لم تنجح أية مبادرة من محاولات الضغط سواءً من جانب الولايات المتحدة أو روسيا، في إيقاف التدهور الحاصل، نتيجة إصرار أطراف النزاع على المواجهات، وسقوط عشرة قتلى في الأحداث من بين المدنيين وقوات الأمن.

ويعتقد المحللون أن الافتقار إلى استراتيجية واضحة لدى الجانبين هو المسئول عن تدهور الوضع واستمرار المواجهات، وعن انسداد أفق الحل الواقعي للمشكل الفنزويلي، والذي يمكن أن يؤدي بالتالي إلى مزيدٍ من الاضطرابات والتطورات السريعة غير محمودة العواقب. وسيؤدي ذلك بدوره إلى احتمالات التدخل الخارجي سواءً من قبل الولايات المتحدة أو روسيا، أو حتى دول الجوار اللاتيني، للتوصل إلى حلول تفرض ضرورات الأمر الواقع تحت ذريعة تكريس وتعزيز الاستقرار، وتحت شعار «مصالحنا تفرض علينا أيضاً واجبات التحرك». ولذا فإن ما نشأ عن ذلك يتطلب بالضرورة التوصل إلى حلول إيجابية وجوهرية بين الأطراف المتنازعة في البلاد.

Loading