من يهدد أمن أوروبا؟

أعلنت عدة دول أوروبية في مقدمتها بريطانيا وفرنسا إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية، عن مقاطعتها لاجتماعات مجموعة دول الثماني المزمع عقدها في منتجع سوتشي في روسيا في شهر يونيو/ حزيران 2014، احتجاجاً على ما أسمته «الأعمال العدوانية» الروسية تجاه أوكرانيا. وهدّدت موسكو بعقوبات صارمة في حال تجرأت على استخدام القوة لتحقيق أطماعها في أوكرانيا، أو حاولت تشجيع منطقة شبه جزيرة القرم ذات الأغلبية الروسية والحكم الذاتي، على الانفصال عن أوكرانيا، وكذلك حرمانها من عضوية مجموعة الثمانية.

وبدأت بريطانيا وفرنسا بوضع تهديداتها موضع الجد، حين أعلنت عن انسحاب ممثليها من الاجتماعات التمهيدية للقمة، التي ستناقش أموراً مهمة وحساسة حول مستجدات الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية الدولية، بعد تصعيد الأحداث في القرم.

ومن جانبه صرح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) أندرس فوغ راسموسن، خلال انعقاد «اجتماع الأزمة» الذي بدأه الحلف في 2 مارس/ آذار الجاري، بأن «كل ما تفعله روسيا تجاه أوكرانيا ذات السيادة ينتهك مبادئ ميثاق الأمم المتحدة ويهدّد السلام والأمن والاستقرار في أوروبا».

في مقابل التصعيد الأوروبي الشديد اللهجة، أصرّت روسيا على صحة مواقفها في أوكرانيا، ولوّحت باحتمالات استخدام القوة العسكرية لحماية مصالحها الاستراتيجية في أوكرانيا، وخصوصاً في المناطق الشمالية والجنوبية من البلاد حيث تتواجد فيها غالبية سكانية من القومية الروسية والناطقين باللغة الروسية، وذلك بعد منح الرئيس الروسي فلاديمير بوتن الضوء الأخضر من قبل مجلس الاتحاد الروسي، لإعلان التدخل العسكري المباشر في النزاع الأوكراني عندما تتعرض مصالح المواطنين الروس والناطقين باللغة الروسية للخطر من قبل «المستحوذين على السلطة الجديدة والمتشددين القوميين والنازيين الجدد في أوكرانيا». وهو الأمر الذي اعتبرته الحكومات الغربية وكذلك الولايات المتحدة الأميركية تحدياً واضحاً لتوجّهاتها السلمية في أوكرانيا، ولمبادئ الأمم المتحدة، وتهديداً للسلام والأمن والاستقرار في أوروبا.

رئيس الدبلوماسية الروسية سيرجي لافروف قال في تصريح للصحافة خلال اجتماعات مجلس حقوق الإنسان المنعقدة في دورته العادية 25 في جنيف مابين 3ـ 28 مارس 2014 إن «الذين يريدون اليوم معاقبة روسيا ومقاطعتها ويفسّرون مواقفها المبدئية من أوكرانيا على أنها بمثابة (عدوان)، هم أنفسهم الذين شجّعوا بصورةٍ منهجيةٍ رفض حوار المصالحة الوطنية، وشجّعوا على استقطاب المجتمع الأوكراني وإيصال البلاد إلى الوضع الراهن».

كانت الدول الغربية ومعها الولايات المتحدة الاميركية، دائمي الحضور بقوة منذ بداية مراحل المشهد المضطرب في أوكرانيا، ويحاولون تأجيج الوضع هناك بشتى الوسائل، حتى بلغ مستوى الذروة الخطيرة، بعد رفض الرئيس الأوكراني فيكتور يانوغوفيتش التوقيع على اتفاق الشراكة مع أوروبا.

وكانت الاحتجاجات والاضطرابات قد بدأت تتحرك في ذلك الوقت بشكل سلمي، ولم تتجه الأمور لمنحى القوة والعنف وأعمال التخريب الممنهجة، التي مارسها أنصار المعارضة الأوكرانية ضد العديد من المنشآت والمؤسسات والمقار الحكومية الرسمية. ولم يكن السلاح موجوداً في حوزة المتشدّدين القوميين والنازيين الجدد الموالين للغرب، وكانت هناك بعض الفرص المؤاتية لإيجاد الحلول السلمية، خصوصاً بعد توقيع وثيقة السلام والمصالحة الوطنية، التي وقّعها الرئيس الأوكراني يانوغوفيتش مع قيادات قوى المعارضة الأوكرانية برعاية فرنسا وألمانيا وبولندا، إضافةً إلى الممثل الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتن، التي نصّت على العودة للعمل بدستور العام 2004 والبدء بإصلاحات دستورية جديدة، وتقليص صلاحيات الرئيس وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة بعد تبنّي الدستور الجديد في موعدٍ لا يتجاوز شهر ديسمبر/ كانون الأول 2014، وإجراء تحقيقات شاملة في أحداث العنف تحت إشراف مشترك من الحكومة والمعارضة ومجلس الاتحاد الأوروبي.

لكن الغرب استعجل كافة الأمور وفضّل حرق المراحل، من أجل فرض ضرورات الأمر الواقع والإطاحة بالرئيس الشرعي للبلاد، وتحدّي روسيا، وذلك بعد أن أرسل ممثلين عن حكوماته الرسمية، وكذلك ممثلة الشئون السياسية الخارجية للاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون للالتقاء بقيادات المعارضة الأوكرانية وقواعدها وأنصارها في موقع الحدث في قلب «ميدان الاستقلال»، وتهنئتهم بـ «انتصاراتهم الساحقة»، وشجاعتهم وصمودهم في وجه «أعداء الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان»، الأمر الذي حفّزهم وشجّعهم على الاستمرار في التحدي والتصلب التام في مواقفهم تجاه الحكومة الشرعية والرئيس الشرعي، وتجاوزهم لكل بنود وثيقة السلام والمصالحة الوطنية عبر إستعراض عضلات القوة والقيام بأعمال مخالفة للقوانين، مستفيدين من نصائح الغرب وإغراءاته الاقتصادية وإدعاءاته بحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأيضاً من عدم فرض السلطات الأوكرانية الشرعية حالة الطوارئ.

وفي آخر تصريح للرئيس الروسي فلاديمير بوتن للصحافيين قال إن «ما حدث في أوكرانيا هو انقلاب غير شرعي وسيطرة كاملة على السلطة، وأن الرئيس فيكتور يانوفيتش قد سلم السلطة في أوكرانيا بعد توقيع تسوية الأزمة مع المعارضة في 21 فبراير/ شباط 2014». وأضاف أن «روسيا ليست لديها أية نوايا عدوانية ضد جارتها أوكرانيا»، لكنه في نفس الوقت حذّر من المساس بحياة المواطنين الروس والقوات المسلحة الروسية المتواجدة في الأراضي الأوكرانية.

وعلى الرغم من هذا التصريح الصريح والواضح، فإن وزير الخارجية الأميركي جون كيري في آخر زيارة له إلى أوكرانيا لتهنئة حكامها الجدد في 4 مارس 2014، رفض التسليم بهذا الواقع، وندّد بما وصفه بـ «العمل العدواني» الذي تقوم به روسيا في الوقت الحاضر تجاه أوكرانيا.

هذا الدعم الواسع النطاق من الغرب لقوى المعارضة الأوكرانية، هو الذي مهّد الطريق لإعلان الفوضى وتهديد الأمن والاستقرار في أوكرانيا، وسيطرة المعارضة على البرلمان والبدء بسلسلة القوانين المجحفة، التي تُوّجت بإقالة العديد من الوزراء وكبار المسئولين السياسيين والعسكريين والأمنيين، وتشكيل حكومة مؤقتة وعزل الرئيس الشرعي يانوغوفيتش من منصبه، والمطالبة بمحاكمتهم لارتكابهم -على حد قولها- عمليات القتل الجماعي للمدنيين المسالمين، في الوقت الذي كانت فيه روسيا تدعو الأطراف المتنازعة في البلاد، إلى ضبط النفس والالتزام بتنفيذ بنود وثيقة السلام والمصالحة الوطنية، وإعلان قادتها بأن روسيا لا تريد التدخل أو الحرب في أوكرانيا الشقيقة.

اليوم، وبعد أن حرّض الغرب والولايات المتحدة الأميركية، المعارضة المتشددة والنازيين والقوميين المتعصبين في أوكرانيا، بدأت بمرحلة عضّ الأصابع وذرف دموع التماسيح على الأوضاع الملتهبة واحتمالات تقسيم وتشطير البلاد بين قوميات وإثنيات وثقافات متعددة، وتصب جام غضبها على روسيا المدافعة عن مصالحها وشعوبها ولغاتها في أوكرانيا، وتتهمها بمخالفة ميثاق الأمم المتحدة وتهديد الأمن والسلام في أوروبا.

Loading