المشردون الجدد في أوروبا
من حلم الرفاهية والاستقرار في ملاذات آمنة، بعد معاناة سنوات من الظلم الاقتصادي والاجتماعي في أوطانهم الأصلية، تحوّلت أحلام وطموحات المهاجرين الفقراء إلى الدول الأوروبية الغنية، إلى مجرد أوهام وجحيم وتشرد، نتيجة القوانين والإجراءات الصارمة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي مازالت تحاصر هذه الدول، إضافةً إلى التوجهات القومية المتشدّدة ومظاهر العنصرية التي برزت بشكل واضح بعد توسع الاتحاد الأوروبي، واعتقاد العديد من القوى العنصرية الأوروبية بوجود «أجسام غريبة» في مجتمعاتها، تحاول أن تشوّه نمط العادات والتقاليد السائدة منذ الأزل، وتتقاسم معها الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية ولقمة العيش.
في إحصائيات جديدة نشرتها عدة منظمات خيرية وإنسانية معنية بقضايا المشردين والباحثين عن مأوى في دول الاتحاد الأوروبي، تبين أن هناك قرابة 5 ملايين مشرّد في هذه الدول، يعانون من وطأة الحرمان من العمل والسكن والوظيفة، ويفترش غالبيتهم الطرقات والأماكن المهجورة رغم قسوة الصيف وزمهرير الشتاء القارس.
وعلى الرغم من اعتراف الاتحاد الأوروبي بأن لديه أكثر من 11 مليون وحدة سكنية فارغة موزّعة بين مختلف الدول الأعضاء في الاتحاد، تكفي لاستيعاب قرابة 4.1 ملايين إنسان يعيشون بلا مأوي، فإن الواقع الحقيقي يعكس صورةً قاتمةً عن الأوضاع المأساوية التي يعيشها المشرّدون في هذه الدول، حيث أن جميع الوحدات السكنية الفارغة تظل عديمة الفائدة من دون توزيعها على هذا الكم الهائل من المشردين المحتاجين إلى الرعاية الاجتماعية والصحية والنفسية والمالية.
وتشير الاحصائيات إلى أن غالبية المشردين الذين يفترشون الطرقات والأماكن المهجورة في دول الاتحاد الأوروبي الغنية، هم من العمال الفقراء من دول شرق أوروبا ومن منطقة اليورو أيضاً، مثل ايطاليا وأسبانيا واليونان، ضاقت بهم سبل العيش في تلك البلدان تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، وتوجّهوا للبحث عن العمل في الدول الأوروبية الغنية مستفيدين من قوانين حرية التنقل داخل هذه الدول. لكنهم في نهاية الأمر صدمتهم قوانين العمل والأنظمة الاجتماعية المشدّدة، فوجدوا أنفسهم يعيشون في عزلةٍ تامةٍ عن الحياة الطبيعية المألوفة في بلدان المهجر ولا يستطيعون فعل أي شيء.
في الدنمارك، تشير الاحصائيات الرسمية إلى وجود عشرات الآلاف من مواطني دول أوروبا الشرقية وخصوصاً بولندا ورومانيا وبلغاريا ودول البلطيق الثلاث، ليتوانيا ولاتفيا واستونيا، تخالطهم بضع أقليات افريقية، يتواجدون بشكل قانوني في الدنمارك، لأنهم يتمتعون بامتيازات العمل الأوروبية وبتصاريح إقامة من بلدان أوروبا الشرقية والجنوبية، ولكنهم إن لم تتح لهم أية فرصة للعمل ينتهي بهم الأمر إلى التشرد، الذي يدفع ببعضهم في النهاية إلى ممارسة السرقة وتعاطي الكحول أو المخدرات نتيجة قسوة الحياة في الشارع.
وفي السويد، أصبح سكان العاصمة استوكهولم وبعض المدن الكبرى، يشاهدون لأول مرة في تاريخ هذه المدن، وجود هذا الكم الهائل من المشرّدين من غير السويديين الأصليين -بحسب الإذاعة السويدية- حيث توحي مظاهرهم الخارجية أنهم غرباء، وصلوا في الفترة الأخيرة إلى البلاد بحثاً عن العمل والإقامة، ولكنهم اصطدموا بقوانين التأمينات الاجتماعية السويدية، ووجدوا أنفسهم بعد ذلك يعيشون حياة التشرد، ويكابدون بقوة من أجل الحصول على كسرة الخبز.
وهذه ظاهرة غير مألوفة ومثيرة للسخرية، بدأت تبرز مؤخراً في المجتمعات الاسكندنافية، التي تتوفر فيها مستويات مرتفعة من العدالة الاجتماعية وعدم المساس بكرامة وحقوق الانسان.
وفي بريطانيا، تفيد مصادر شبكة المعلومات البريطانية للمشردين، بأن غالبية من يفترشون الشوارع في لندن والمدن الأخرى، قدموا منذ السنوات الأخيرة من دول أوروبا الشرقية، إضافةً إلى بعض المهاجرين الجدد، وأعدادهم تقارب 5.1 ملايين مهاجر، بحثاً عن حياة أفضل، ولكنهم للأسف الشديد، لم يستطيعوا أن يحقّقوا أحلامهم وأمانيهم وتطلعاتهم المنشودة في البلد نتيجة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تواجه بريطانيا في هذا الوقت بالذات.
وعلى رغم كل هذه المعاناة الاجتماعية والاقتصادية القاسية والمؤلمة التي يعيشها المشرّدون في البلدان المتقدمة والغنية، تطالب بعض حكومات دول الاتحاد الأوروبي بضرورة تشديد القيود على الهجرة، ومراجعة الأنظمة والقوانين الاجتماعية المعمول بها في دول الاتحاد، بذريعة أن صياغتها تمت قبل قبول عضوية 100 مليون إنسان يعيشون في أفقر بلدان القارة الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي.