صحوة «الدب الروسي»

قبل حدوث الأزمة الأوكرانية، التي أنهكت كاهل البلاد وغيّرت موازين القوى والتحالفات الإقليمية والدولية، ومن قبلها قضايا البلقان وسورية وإيران، كانت الولايات المتحدة الأميركية والغرب، ينظرون إلى روسيا الجديدة التي خرجت لتوها من عباءة الاتحاد السوفياتي السابق، الذي كان بمثابة العدو الأول والأخير بالنسبة للولايات المتحدة والغرب ومن كان يدور في فلكهم من حكومات «العالم الحر»، بأنها لاتزال قوة سياسية ونووية جبارة ومهابة، ولاعباً أساسياً في التحالفات الدولية الجديدة، حيث كانت التوقعات بأن يشهد العالم برمته المزيد من الأمن والاستقرار والسلم الدولي أكثر من أي وقت مضى بعد الحرب العالمية الثانية.

وحين انهارت أركان الاتحاد السوفياتي ومن قبله دول المعسكر الاشتراكي المنضوي تحت رايته، هللت الولايات المتحدة والغرب برمته لهذا السقوط المدوّي الذي مزّق أوصال الاتحاد السوفياتي وتوابعه من دول المعسكر الاشتراكي، وأوقف شريان الروح الشيوعية الحيوية وامتداد جسمها وأذرعها إلى مناطق عديدة في العالم كانت تحلم بالاشتراكية الواقعية، وتكن بالغ العداء للولايات المتحدة والامبريالية العالمية، وتعاون معها الغرب، الذي ظلّ على مدى سنوات الحرب الباردة يتخوف بقوة من احتمالات التوسع والغزو السوفياتي لاحتلال أراضيه، وانتهى الاتحاد السوفياتي بتشتت جمهورياته (15 جمهورية اشتراكية) وخسارة مداه الحيوي في جمهوريات المعسكر الاشتراكي.

وورثت روسيا الاتحاد السوفياتي بعد تفككه، بكل مقوماته وركائزه السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتبوأت مقعده الدائم في الأمم المتحدة، وبذلت الولايات المتحدة والغرب جهوداً مضنية لكي تأخذ روسيا الجديدة مكانة بارزة وطليعية في رسم السياسة الدولية، وتحالفت مع عضو المكتب السياسي المنشق عن الحزب الشيوعي السوفياتي بوريس يلتسن، الذي أجبر الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف على إعلان حل الحزب الشيوعي السوفياتي بكل مقوماته وأركانه ودعائمه، بعد أن تصدّر الواجهة واستطاع أن يعيده إلى السلطة في أعقاب الانقلاب العسكري الذي أطاح به من قبل قيادات بارزة في الحزب في العام 1991 وأغرقت جيوبه بالأموال الطائلة وبأعداد كبيرة من الخبراء والمستشارين ومختلف الخدمات الدعائية والاعلامية الهائلة التي تستطيع الوصول به إلى سدة الحكم.

وساعدته على استقلال روسيا عن الاتحاد السوفياتي، وقدّمت له العون في صراعه مع المعارضة الروسية التي تصدّت لكل سياساته الطائشة، ومع المشكلات الاجتماعية والتنمية والاقتصاد الذي أنهكته الاكتشافات العلمية والتصنيع العسكري والأمني. وقد اعتقدت الولايات المتحدة والغرب، أن روسيا في ظل حكم يلتسن أو من سيخلفه في الحكم، ستبقى على مدى سنوات أو عقود طويلة، رهينةً طيّعةً لمشاريعهم وتطلعاتهم وأحلامهم وأهدافهم الرامية إلى الاحتكار وفق سياسة القطب الواحد، الذي يستطيع بمفرده السيطرة على مقدرات وقرارات وسياسات وعسكرة العالم برمته.

لقد بقيت روسيا طوال سنوات حكم يلتسن، وحتى وقت قريب، بعيدةً بعض الشيء عن هموم ومعترك السياسة الدولية، بسبب صدمة الاتحاد السوفياتي وغربة الاقتصاد والسياسة، باختيارها وليس تحت وطأة الضغوط من أحد، لأن التركة الثقيلة التي خلّفها الاتحاد السوفياتي تحتاج إلى سنوات طويلة من العمل للتغيير والتطور الشامل في شتى ميادين الحياة العامة، فيما لعبت الولايات المتحدة دورها المنفرد بالهيمنة على السياسة الدولية تحت شعار «قيادة العالم الحر»، وإحياء الحلم الأميركي القديم بالهيمنة على العالم أجمع، ذلك الحلم الذي تبدّد وتمرغ في أوحال الحرب الفيتنامية الشرسة.

وعلى الرغم من ذلك ظلّت الولايات المتحدة الأميركية، طوال فترة «الضعف الروسي» قلقةً وخائفةً من صحوة «الدب الروسي» الذي يستطيع بعد تضميد جروحه أن يقفز إلى الواجهة ويتزحلق بخفة فوق الأمواج العاتية في السياسة الدولية. ولذلك بدأت تثير المخاوف من روسيا وتتعامل معها كعدو محتمل. وبالفعل عندما وجدت روسيا نفسها محشورةً في زاوية ضيقة من التصرفات الأميركية والغربية السلبية والضاغطة، تحرّرت من عقدة الضعف التي ساورتها طوال حقبة التحوّلات الجديدة، وتصدّت بقوةٍ لكافة المخططات والمشاريع الأميركية والغربية المشبوهة، وخصوصاً الخطط والمشاريع التي كانت تهدف إلى توسيع حلف الناتو الذي كسب انضمام هنغاريا وبولندا وجمهورية التشيك، وإغراء دول البلطيق الثلاث ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا لاحقاً للانضمام إلى الحلف والاتحاد الأوروبي، والتي استطاعت الولايات المتحدة والغرب فرضها على روسيا تحت ضرورات الأمر الواقع.

وهذا يعني عدم اكتراث الولايات المتحدة والغرب بما سوف تقوم بفعله روسيا تجاه هذا التحدّي، الذي تم فرضه عليها بالقوة وهي في ذروة ضعفها وتفاقم مشاكلها وأزماتها الداخلية وتطلعات بعض مناطقها إلى الانفصال، كما حدث مع الشيشان التي اشتبكت معها في حرب ضروس من أجل الاستقلال. ولكن عندما رمّمت روسيا بيتها الداخلي وتجاوزت مشاكلها وأزماتها الخانقة، لم تعد روسيا السابقة القلقة والخائفة، وأصبح نفوذها في مناطق عديدة من العالم يفوق حتى النفوذ السوفياتي السابق قبل عقدين من الزمن. واستعادت سمعتها كقوة عظمى ومهابة في الساحة الدولية.

وقد تأكد ذلك الأمر بالنسبة لقضايا عديدة من بينها قضية «الدرع الصاروخية» التي قرّرت الولايات المتحدة إقامته في بولندا ورومانيا، وادّعت بأنه ليس موجهاً ضد روسيا، بل لصدّ تهديدات الصواريخ الإيرانية العابرة للقارات، وقضية سورية المتعثرة بعد فشل جنيف (1/2) والمشروع النووي الإيراني، ولاحقاً الأزمة في أوكرانيا، حيث ظلت روسيا صامدةً في وجه كافة التحديات الدولية، ولم تقدم أية تنازلات عن مواقفها السياسية تجاه كل هذه القضايا الصعبة والحساسة. وهو الأمر الذي شعرت فيه الولايات المتحدة والعرب بأنه حقيقةٌ قائمةٌ على أرض الواقع، وكان عليهم معرفة أنهم ليسوا وحدهم فقط من يتحكّم بصنع القرار ورسم السياسة الدولية.

Loading