سقوط أسطورة الرفاهية

على رغم مؤشرات التفاؤل، التي تحدثت عنها تقارير المفوضية الأوروبية، حول تطورات الواقع الاقتصادي والمالي في دول الاتحاد الأوروبي، والتي توقعت ارتفاع نسبة النمو في كل هذه الدول خلال العامين 2014 و2015، نتيجة إجراءات وقوانين التقشف الصارمة وتصحيح الموازنات العامة، التي أرهقتها القضايا الاقتصادية والمالية في حقبة سنوات ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، فإن العديد من خبراء السياسات الاقتصادية في أوروبا، يساورهم بالغ القلق من إعادة بناء اقتصاد دمّرته ديون الحكومات والشركات التجارية والعائلات والقروض الصغيرة.

وبدأ بعض المراقبين الغربيين في هذا الوقت، يتوقعون اقتراب سنوات سقوط «أسطورة الرفاهية» التي ظلت بعض دول الاتحاد الأوروبي الغنية تتفاخر بها على مدى عدة عقود من الزمن، حتى في ذروة تصاعد الأزمة الاقتصادية العالمية، نتيجة تميّزها بقوانين العدالة الاجتماعية والمساواة بين مختلف مكونات وقطاعات الشعب، خصوصاً بعد أن أبدى العديد من السياسيين والاقتصاديين تخوفهم من احتمالات تفكك منطقة اليورو، وبالتالي إلغاء العملة الموحدة «اليورو» في دول الاتحاد الأوروبي، نتيجة تراكم الديون الضخمة والاستحقاقات.

وفي ما كانت توقعات المفوضية الأوروبية تشير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لجميع دول الاتحاد الأوروبي يسجل نمواً يقارب 1.6 في المئة بالنسبة لمنطقة اليورو خلال العام الحالي، ويتواصل مستوى النمو في العام القادم، إلى معدل 2 في المئة في دول الاتحاد، و1.7 في منطقة اليورو وحدها، فإن سلسلة تقارير تلتقي على تأكيد تباطؤ النمو الاقتصادي في عموم القارة الأوروبية، نتيجة التضخمات وتراجع مستويات بعض المنتجات الصناعية والتجارية بسبب المنافسة العالمية، واتباع بعض الحكومات الغربية سياسات خاطئة، كما يرى ذلك المستشار والخبير في الأزمات الاقتصادية والمالية دانيال ستلر، في كتابه الجديد «قنبلة الديون التريليونية»، حيث قال أن ما تعيشه أوروبا في هذا الوقت ليس مجرد أزمة بنوك أو أزمة ديون سيادية كما يتصوّرها البعض، إنما هي أزمة سياسات خاطئة تسببت بحدوث كارثة اقتصادية أوروبية. فمنذ بدايات ظهور الأزمة في العام 1980 تضاعفت ديون الحكومات والشركات والعائلات من مستوى 160 إلى نحو 320 من الناتج المحلي الإجمالي. وبعد سقوط جدار برلين وانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وجدت الدول الصناعية نفسها تعيش تحت وطأة ضغوطات تكلفه هائلة قادمة من القارة الآسيوية، وبدلاً من الاستثمار في التعليم العام والابتكارات التكنولوجية الجديدة، اختار السياسيون والمواطنون في أوروبا منافذ سهلة للوصول إلى تطلعاتهم الاقتصادية عبر دينامية الديون، التي ظلّت سائدةً طوال حقبة الأزمة المالية، والتي يصعب على المستدينين تسديدها في مواعيدها المقررة. فبينما يحقق المواطن الأميركي حلمه في امتلاك منزل خاص من خلال القروض الائتمانية، تقوم الدول الأوروبية بتمويل دولة الرفاه من خلال المشاريع الائتمانية الضخمة.

ويضيف ستلر أنه عندما انطلقت العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، عزّزت أيضاً «عربدة الديون»، وشجّعت على استمرار تمويل مشاريع قد تكون ضعيفةً أو خاسرةً، وخصوصاً في بلدان جنوب أوروبا مثل اليونان وأسبانيا والبرتغال. ففي إسبانيا وحدها بلغت نسبة الديون قرابة (2 ونصف تريليون يورو)، وكان أكثر من 70 في المئة من إجمالي هذه الديون يأتي عبر استثمار مؤسسات وشركات القطاع الخاص، وأما البرتغال وأيرلندا اللتان غادرتا بالفعل مظلة صندوق إنقاذ اليورو تفادياً للافلاس، فإن أوضاعهما الاقتصادية والمالية تواجه تحديات صعبة للغاية.

ويري بعض خبراء الاقتصاد في أوروبا، أن مسائل التقشف ربما تكون وحدها هي أهم أدوات العلاج لتخفيف تراكم الديون الوطنية العامة، فيما يرى البعض الآخر أن مثل هذه التدابير والإجراءات التقشفية يمكن أن تثقل كاهل النمو المنهار في الأساس، وتعيق عمليات سداد الديون، في الوقت الذي يرى الناس بأنهم في حاجةٍ إلى الاستدانة، بسبب ضغوط الحياة المعيشية اليومية وتزايد النفقات على المنتجات الضرورية الحيوية الحديثة.

غير أن قلق الاقتصاديين الغربيين هذا، لن يقدّم أو يؤخّر في شيء، فالأزمة الاقتصادية المتوحشة في أوروبا، باتت كل مؤثراتها السلبية تسود الآن مختلف العواصم الأوروبية، وتؤرّق مضاجع شعوبها وحكامها على حد سواء.

Loading