رؤية جديدة للإصلاح
يقول فولتير إن من الأسهل على الفيلسوف أن يقنع فرداً واحداً بضرورة الإصلاح فيفرضه من فوق على الجميع، من أن يقنع جماعات متعددة لكل منها مصالحها في بقاء النظام القديم.
تنطبق هذه المقولة على المجتمعات التي تناضل من أجل الإصلاح وتعجز عن تحقيق تطلعاتها الإصلاحية، بسبب تضارب المصالح الذاتية واختلاف الأفكار والسياسات والتوجهات؛ ذلك أن القوى التي حاولت أن تخوض معارك الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولم تستطع عبر مختلف وسائل النضال المشروعة، أن تحقق أهدافها وأمانيها وتطلعاتها المنشودة، بسبب اصطدامها بموانع ومواقف وآراء واتجاهات معاكسة، تكون بحاجة إلى تطلع جديد يتلاءم مع أوضاع المرحلة التي تعيشها، ويتبنى مشاريع وطنية جديدة تتجاوز الأطر التقليدية والقيود الطائفية والمذهبية، ويدفع بقوة نحو تعزيز وتكريس الوحدة الوطنية.
وقد كرست الأحداث المؤلمة التي شهدتها البحرين على امتداد السنوات الثلاث، والتي لازالت تداعياتها حتى الآن تطحن الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني في عموم البلاد، حقائق مؤلمة وخطيرة على مختلف مناحي الحياة العامة، ويأتي في مقدمة هذه الحقائق مسألة التدهور الأمني من دون انقطاع، وتشطير بنية المجتمع وتوجهه إلى استقطابات متصارعة طائفية ومذهبية وجمعية وفردية شخصية متنافية ومشتتة بين معارضة وموالاة، بلغت حد الانفصام، رغم الحديث المتكرر على ألسنة مختلف هذه الملل والمكونات عن ضرورات تعزيز وتكريس الوحدة الوطنية والأخوة والمصير الواحد المشترك.
وعلى رغم كافة المحاولات والمناشدات الحميدة، التي بذلت خلال السنوات الثلاث الأخيرة من أجل تحقيق الأمن والاستقرار والتعايش السلمي بين مختلف طبقات وطوائف المجتمع البحريني، والتوفيق بين مختلف الآراء والمواقف والاتجاهات في صيغتها الوطنية، مازال الاستقطاب الطبقي يدفع نحو تكريس الخلافات والاختلافات، حيث تمارس كل طبقة أو طائفة أو فئة، ابتعاداً واضطهاداً واستخفافاً إزاء الأخرى، الأمر الذي أوصل كافة الحلول التي طرحت حتى الآن لمعالجة الوضع السياسي والاجتماعي المأزوم، إلى أصعب الطرق المسدودة.
في نفس الوقت الذي تتسع فيه مشاعر الإحباط واليأس لدى الناس من إمكانية الخروج من المأزق، نتيجة إصرار الجميع على المكابرة والتحدي، وتعسر التوافقات الإقليمية وحتى الدولية، التي يمكن أن تسهم بإخراج البلاد من المحنة، ما يستوجب وبسرعة ضرورة حقن الدماء وتطبيع الوضع، من خلال تدخل العقلاء من أبناء البحرين الغيارى والمخلصين لإيجاد المخارج والأفكار الهادفة الضرورية التي تجمع الشمل وتوحد الرؤية والإرادة المشتركة الجدية، مادامت الأمور تتدحرج ككرة الثلج، من دون أن يكون هناك أي رابح أو منتصر في ميدان المعركة التي أنهكت كاهل المتنازعين من جميع القوى المتصارعة في الساحة.
ومادامت كافة هذه القوى لا تمتلك أية أوراق مساومة أو أية (قوة كافية) كي تدعي بها تمثيل الشعب برمّته، حتى لو افترض أن بعضها كان قادراً أن يقود الجماهير، أو أن يضبط الأوضاع الفالتة من عقالها في مرحلة فلتان الزمام، فإنه من الصعب جداً أن يفرض شروطاً قوية سياسية أو معنوية أو أمنية تجاه الآخر، في ظل عدم وجود المناخ الثقافي والفكري والسياسي، الذي يمكن أن تتوحد فيه كافة الرؤى والممارسات، إضافةً إلى قصور أو تبعثر أوراق الضغط الفاعلة والمجدية، من أيادي جميع الأطراف وغياب الشخصية القيادية (الكارزمية) أو «الفيلسوف» الذي يستطيع بموهبته الفلسفية الفذة وشجاعته وحنكته السياسية الخارقة، أن يقنع الفرد الواحد بضرورة الإصلاح فيتم فرضه من فوق على الجميع، بدلاً من المراوحة والمداورة واستهلاك المزيد من الوقت في مواجهة جماعات متعددة، ولكل منها مصالحها في استمرار وبقاء الأوضاع على ما هي عليه.
وكان كل ما شهدته البلاد من حملات قمع منهجي ضد الأصوات المطالبة بالحقوق المشروعة، ومن تعقيدات إجراء الحوار الوطني المسئول، التي انتهت به مؤخراً إلى نقطة اللاعودة هو بمثابة دليل قاطع على انفراط عقد التفاهمات والمصالحات، وعلى صعوبة هذه المرحلة وخطورتها على الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي برمته، في ظل غياب الحكمة والتعقل والاحتكام إلى المنطق، وتصاعد وتيرة العنف وانتشار الفوضى، حيث يرى مراقبون أن ما ينتظر البلاد، بعد فشل كافة الحلول وتعسر جميع المناشدات والمساعي الحميدة، التي يراد بها وأد الفتنة، يبدو أنه سيكون أعظم.
إن وضعاً مأزوماً كالذي تشهده البلاد في الوقت الراهن، يحتم على الجميع، الحكومة والمعارضة، أن يعوا لكل المتغيرات الجديدة، سواء على المستويين الوطني والإقليمي أو الدولي، والقيام بجردة حسابات شاملة لتصحيح المسارات الخاطئة، التي تسببت في حدوث الفتنة والاضطرابات، وأوصلت البلاد إلى منزلق خطير ونتائج كارثية مخيفة، على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، موفرةً ظروفاً مناسبة للتدخلات الخارجية المباشرة وغير المباشرة في الشأن الداخلي البحريني، تفرض الظروف والشروط والسيطرة على مجريات القرار، وتعبث بالأمن والاستقرار وتنتهك السيادة الوطنية.
كما يتطلب أيضاً من الجميع الترفع عن صغائر الأمور والسمو فوق الأنانيات والمصالح الضيقة المحدودة، واحترام رأي الآخر، وأن يعودوا إلى ما توحي به ضمائرهم الصادقة والمخلصة وشعورهم المشترك وتمسكهم بالثوابت الوطنية الأصيلة، التي أجمع عليها شعب البحرين برمته، ويستلهموا التاريخ الناصع للنضالات المشتركة والموحدة لشعب البحرين جميعاً من أجل الحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية والاستقلال، كما كان الحال في زمن هيئة الاتحاد الوطني في فترة الخمسينات، والحركة الدستورية التي تشكلت خلالها أوسع جبهة وطنية وإسلامية في التسعينات، حيث وحّدت كل هذه الحركات مختلف الفئات والطوائف البحرينية ورفعت الشعارات المعبرة عن مصالح الجميع، ولم تتردد من رفع شعارات إلغاء التمييز الطائفي، وأن يسعوا بكل ما أتيحت لهم من فرص سانحة لإفشال كافة الخطابات الطائفية والمذهبية والتحريضية، التي يمارسها البعض من أجل رغبات وغايات ومصالح ضيقة محدودة، ويراد من خلالها استمرار دوامة الأزمات في البلاد.
وفي رأينا أن العودة إلى النصوص والبنود المكرسة في ميثاق العمل الوطني، الذي حظي بثقة غالبية شعب البحرين، من خلال الاستفتاء العام، الذي جرى في مرحلة الانفتاح السياسي، والتي سميت بفترة أو عهد الازدهار والتطور، وتطبيقها على أرض الواقع، كمرجعية وحيدة لكل القوانين والتشريعات والإجراءات، والالتزام بتطبيق نص المادة (1. ف. د) من الباب الأول لدستور البحرين، التي تؤكد على السيادة للشعب، وجعلهما بمرتبة الأهمية القصوى.
ولعل ذلك يكون المدخل الصحيح لإحدى الأدوات الحيوية المهمة للعثور على مفاتيح حل الأزمة، التي تعسر على الجميع التصدي لها في وقت المحنة، وجعلت هذا البلد المعروف عن شعبه كل مميزات الاعتدال والتسامح والوحدة، يحتل المراتب المتقدمة بين الدول الأكثر تأزماً واضطراباً.
ومن دون العمل بكل هذه الأدوات والمعايير السلمية والعقلانية، لا يمكن تحقيق الاستقرار، أو تستقيم الأمور بطبيعتها المعهودة، أو استعادة اللحمة بين الشعب، التي تقطعت أوصالها نتيجة استمرار هذا النزاع المخيف.
لا مستقبل للبحرين بوجود تناحر مجتمعي وضغائن وأحقاد، وطوائف منقسمة على بعضها البعض، تحاول كل واحدة منها أن تفرض مستوى وجودها أو نفوذها على الأخرى، وتيارات وقوى متواجدة من منابع شتى تتصارع في ما بينها على تصدر الواجهة وسبق الزعامة، وسلطة سياسية متصلبة في توجهاتها وقراراتها تستخف بمطالب الرأي الآخر، في وقت تتحول فيه الدول الأخرى وتتقدم نحو مستوى الازدهار الحضاري وميادين الحرية والديمقراطية والسلم الأهلي وحقوق الإنسان.