دروس مفيدة من التجربة الدستورية الألمانية
احتفلت ألمانيا قبل أيام عدة بالذكرى 65 على إصدار القانون الأساسي (الدستور) الذي قطعت به ألمانيا الحديثة والمعاصرة كل صلاتها بترسبات ومخلفات العهد الشوفيني النازي، الذي فرض على الأمة الألمانية الروح القومية المتميزة والتوجه العسكري وخوض الحروب والاقتتال، وأصبحت بعد إعلانه رسمياً قوة سياسية واقتصادية عظمى يحتذى بها ليس على مستوى أوروبا وحدها، بل العالم برمته.
في هذا القانون الأساسي الذي أقر في العام 1949 وأشرف على إعداده وكتابته 61 رجلاً و4 نساء من ذوي الخبرة والاختصاص في الفقه القانوني والدستوري، والذين ظلوا يوصفون في ألمانيا بـ «آباء وأمهات» القانون الأساسي الألماني، 146 مادة أساسية تنطلق من أفكار ثابتة لا تقبل التشكيك والخلاف حول هيكلية النظام الأساسي للدولة الألمانية والحقوق الأساسية العامة للمواطنين الألمان، والتي تأتي في مقدمتها الكرامة الإنسانية التي لا تمس والناس سواسية أمام القانون والمساواة بين الرجل والمرأة وحق المواطن في التعبير عن رأيه بحرية.
كان على المشرعين الألمان، الذين صاغوا مواد القانون الأساسي الألماني، أن يأخذوا بعين الاعتبار التركة النازية الثقيلة والمخزية، التي ألحقت (الذل والعار) بالأمة الألمانية بسبب التوجهات العنصرية والشوفينية، التي عمل بها قادة البلاد الكبار وجنرالات الرايخ الثالث طوال سنوات حقبة النازية البشعة والدامية، وتثبيت كافة الحقوق الأساسية المشروعة للمواطن الألماني وتطوير النظام السياسي للدولة الألمانية، والذي أصبح له الدور الرائد في التغيرات الديمقراطية والاقتصادية الحديثة وفي كيفية إدارة حياة الدولة اليومية من القاعدة إلى القمة.
وعلى رغم مرور 65 عاماً على إقرار القانون الأساسي وتطبيقه على أرض الواقع بمثابة (دستور) لما كان يعرف في السابق بـ (ألمانيا الغربية) خلال مرحلة الجدار الذي قسم البلاد إلى شطرين (الغربي والشرقي) بعد الحرب العالمية الثانية، وامتلاك الدولة قوة عسكرية واقتصادية جبارة، فإنها بقيت على عهدها متمسكة ووفية لكل ثوابتها الوطنية وحريصة على توحيد شطرها الشرقي، الذي لم تتخلَّ عنه لحظة واحدة، ولم تعد تتطلع إلى أية نوايا عدوانية ضد الدول المجاورة أو غيرها من الدول الأخرى، التي تتنازع على احتوائها والسيطرة عليها مختلف القوى الاستعمارية الدولية.
وتشعر ألمانيا اليوم أن عليها واجب القيام بدور فعال في تكريس وتعزيز مواد (الدستور) الذي شمل ألمانيا برمتها بعد التوحيد، وتدعيم مرتكزات دولة الرفاه وتطوير بنية المجتمع والعمل على خدمته، إضافة لتطلعاتها نحو دعم قضايا الشعوب الأخرى، التي مازالت تعاني من الاضطهاد والحروب الأهلية والمجاعات والفقر وغياب الديمقراطية وحقوق الإنسان، مع ضرورات السعي الحثيث لمعالجة المشاكل الداخلية المتعلقة بالاقتصاد وقضايا الهجرة والعنصرية ومظاهرالنازية الجديدة.
ويرى المراقبون، أن ألمانيا ستكون قادرة على مواجهة كافة التحديات الكبيرة في الوقت الذي تعيش فيه استقراراً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً يوفر لها مواصلة الاستمرار في تحقيق تطلعات وطموحات التنمية الاجتماعية والاقتصادية السريعة على المديين الراهن والاستراتيجي للمستقبل.
تجربة مثالية وحضارية رائدة ومفيدة، وكل فصولها ومحتوياتها تكشف بما لا يدع مجالاً للشك قدرة البلاد على تخطي كافة العقبات الصعبة ومواجهة التحديات الكبرى، التي تحاول أن تعترض سبيل تقدمها وتطورها وازدهارها ومواكبتها لعصر التغيير، على عكس الدول الأخرى، التي ليست لديها الشجاعة حتى اللحظة، على تغيير نفسها ودساتيرها المشوهة والبالية مع عالم أصبح مختلفاً تماماً عن الماضي، حيث التحولات والتطورات الديمقراطية وحقوق الإنسان والتكنولوجيا الحديثة، أحدثت تغيرات وتحولات كبيرة وهائلة في حياة الإنسان، الذي يتوق للعيش في حياة آمنة وكريمة من خلال بنية مجتمع مدني متطور، يستطيع أن يوفر للناس كافة الحريات والفرص الاجتماعية والاقتصادية الجيدة والممتازة، التي قد تساعد بشكل واسع النطاق على الحركة والعطاء والرقي والتقدم.