ما أصعب تنازلات الملوك والحكام
تناقلت وكالات الانباء العربية والعالمية، على حد سواء، الاخبار الواردة مؤخرا من سوخومي ومدريد، بشأن حدثين متشابهين تقريبا، الاول تناول إعلان الرئيس الابخازي الكسندر أنكواب استقالته من منصبه يوم الاحد 1 يونيو/ حزيران 2014 تحت ضغوطات البرلمان ومطالب الشارع الابخازي، بعد أن رفض في وقت سابق قرار البرلمان بالتخلي عن صلاحياته واقالة الحكومة بوصفه «خرقا سافرا لدستور جمهورية ابخازيا» واما الثاني فقد تعلق بقرار تنازل الملك الاسباني خوان كارلوس عن العرش إلى ابنه الامير فيليبي، في يوم الاثنين 2 يونيو 2014 تحت وطأة تكرار فضائح الرشا والفساد التي ظلت تلاحق أفراد العائلة المالكة وكذلك حياة البذخ والترف، التي ظل يعيشها الملك نفسه رغم الازمة الاقتصادية الصعبة، التي أنهكت كاهل البلاد والمجتمع.
تختلف المبررات التي قدمها الرئيس الابخازي الكسندر أنكواب، المعروف عن تاريخه وتجاربه السياسية والحزبية السابقة، للدفاع عن نفسه، والتي قالها في كلمة موجزة وموجهة الى الشعب الابخازي «إنه اتخذ قراره الصعب بالاستقالة من منصبه من أجل الحفاظ على استقرار البلاد وتكريس الامن وذلك بعد مشاورات مكثفة مع ممثلي المجتمع المدني والناخبين والقواعد الشعبية المناصرة له» وتلك التي قدمها العاهل الاسباني خوان كارلوس المعروف بشخصيته وحنكته السياسية القوية، والذي كان قد علل قرار التنازل عن العرش، إلى ضرورة تسليم الحكم إلى «جيل جديد وشاب في مقتبل العمر قادر على المضي قدما بالتغييرات التي يتطلبها الوضع الراهن وخدمة مرحلة جديدة قادمة من الامل وجيل جديد».
وهكذا كانت مهمة الحفاظ على الاستقرار، وتصدر الجيل الجديد قيادة المراحل الراهنة والقادمة، هي الامل والطموح، الذي استندت عليه تطلعات الرجلين بصورة ظاهرية، لكن في الحقيقة هناك أسباب عديدة وملحة أجبرتهما على تقديم التنازلات الصعبة قبل أن تأخذ النقمة الشعبية مدياتها الحيوية المعبرة عن خيبات متراكمة من تصرفات الملوك والحكام وفرط وعودهم الطويلة بتحقيق «أحلام شعوبهم» التي تتحول بمجموعها الى حالة شبه مستحيلة. فالرئيس الابخازي، الذي استطاع على مدى ثلاث سنوات أن يحكم البلاد بـ «قبضة فولاذية» رغم التحديات كافة المحلية والخارجية التي تربصت به وبنظام حكمه السياسي، لم يرغب بالتخلي عن الحكم طواعية رغم تعرضه الى 6 محاولات اغتيال متفرقة خلال سنوات تسلمه مقاليد الحكم، ورغم ما كان يدعيه من أنه استقال من منصب الرئاسة مؤخرا بشكل طوعي من أجل الحفاظ على استقرار البلاد وحاجتها إلى التغيير والتجديد، بقدر ما كان الواقع والمناخ السياسي المشحون بموجة استياء سياسي واجتماعي من نمط الممارسة التقليدية المألوفة في الحياة السياسية الابخازية منذ عهد النظام الشيوعي الشمولي السابق، قد فرض عليه فرضا تقديم هذه الاستقالة وبعد إصرار البرلمان الابخازي على حجب الثقة عن رئيس الحكومة ليونيد لاكيربايا، وتقديم مقترح لرئيس البلاد من شأن إعلان استقالته بشكل طوعي. والتصويت لصالح إجراء انتخابات مبكرة في 24 أغسطس/ آب 2014 وتكليف رئيس البرلمان فاليري بغابنا بمهمات تولي صلاحيات رئيس البلاد بشكل مؤقت، وذلك بعد التطورات الخطيرة في الاحتجاجات التي شهدتها العاصمة سوخومي في مطلع الشهر الجاري. الاحتجاجات المطالبة بالاصلاحات الضرورية والملحة في منظومة السلطة الابخازية، والتي تمكن خلالها المتظاهرون من اقتحام مبنى الحكومة في الوقت نفسه الذي اضطر خلاله رئيس البلاد الكسندر أنكواب إلى الهروب خارج العاصمة سوخومي باتجاه إحدى القواعد العسكرية الروسية المرابطة في منطقة جودوات تفاديا لحدوث أية محاولة انتقامية أو عنيفة ضده.
ولكن الامر بالنسبة للملك الاسباني خوان كارلوس، رغم التشابه القريب في الموقف، يختلف من حيث عدم تعرض الملك الذي ساهم شخصيا بتحقيق الوعود بالحريات الديمقراطية وحقوق الانسان، التي قطعتها الدولة على الشعب الاسباني بعد نهاية الحرب الاهلية الاسبانية الدامية المؤلمة، والذي استطاع خلال اكثر من 40 عاما من الحكم أن يكرس ويعزز صورة النظام الملكي الدستوري المتطور والمتقدم، وينتقل بمستوى الدولة الاسبانية لكي تصبح قوة سياسية واقتصادية لها ثقلها داخل مؤسسات الاتحاد الاوروبي، إلى مكاشفة أو محاسبة من داخل قبة البرلمان، أو حتى أية تحديات كبيرة من شعبه، كانت قد حشرته في زوايا ضيقة أو محرجة، أو تسببت في توتير وتصعيد الاجواء الهادئة نسبيا في عموم البلاد، رغم تزايد الاصوات، التي ظلت تلح خلال الفترة الاخيرة على مناشدته ومطالبته باتخاذ «القرار الشجاع» الذي يفضي به إلى التنازل عن العرش، بعد تراكم المشكلات الاقتصادية والعاطفية المتعلقة به شخصيا ومزاعم الفساد التي ظلت تلاحق بعض افراد العائلة المالكة وفضائح التهرب من دفع الضرائب وغسل الاموال التي طالت صهره ثم أصغر بناته الاميرة كريستينا، وكذلك حياة البذخ والترف، التي ظل يعيشها رغم الازمة الاقتصادية الخانقة، التي مازالت تداعياتها تهز اقتصاد البلاد. إضافة إلى ما قيل عن وجود علاقات صداقة حميمة اقامها الملك مع بعض الفتيات الفاتنات خلال السنوات الاخيرة، بحيث أظهرت آخر استطلاعات قياسات الرأي، التي اجرتها مؤسسة «متروسكوبيا» في يناير/ كانون الثاني 2014 تراجعا ملحوظا في شعبية الملك بين الناخبين الاشتراكيين وشرائح وفئات الشباب، وأن قرابة 45 في المئة من المواطنين الاسبان يرغبون في أن يسارع الملك بتسليم مقاليد الحكم إلى نجله ولي العهد الامير فيليبي، الذي يعول عليه الجميع في المضي قدما بالتحولات الجدية التي تتطلبها الاوضاع المرتبطة بتبلور آليات التغيير الداخلية وعلى مستوى أوروبا وحول العالم.
وعلى رغم كل ما تقدم بشأن تخلي الرجلين عن قيادة دفة الحكم، يرى المراقبون أنه ليست هناك ضمانات واضحة للاستقرار السياسي والاجتماعي سواء في ابخازيا أو اسبانيا تبدد مخاوف الاجيال الراهنة واللاحقة، التي تعتمل في النفوس بسبب المسائل المعروفة عن فساد الحكام وتهورهم، وفرط تجاهلهم لتطلعات وإرادات شعوبهم.
ولكن اللافت للامر صراحة في سياق هاتين الحالتين الابخازية والاسبانية، أن العقلانية والممارسة الديمقراطية الحقيقية، كانت الضامن الاساسي لمنع حدوث أية ممارسات تقلق الامن والاستقرار وتتسبب بهدر الدماء على عكس ما هو سائد ومعروف في البلدان الاخرى، ذات الانظمة الاستبدادية القمعية، التي لم تبلغ بعد مستويات التطور والتقدم وازدهار الحياة الديمقراطية الواقعية، وظلت حتى اللحظة الراهنة خارج عصر التغيير الدولي، بحيث يلجأ حكامها وملوكها إذا ما تعرضت بعض مصالحهم أو جميعها للخطر من جراء الاضطرابات أو الاحتجاجات الشعبية المطلبية المشروعة، إلى استخدام أساليب التسلط والبطش وسفك الدماء للحفاظ على استمرار بقائهم في سدة السلطة والحكم.