ذكرى النورماندي… وطعم السلام في العالم
احتفلت أوروبا في 6 يونيو/ حزيران 2014 بذكرى مرور 70 عاماً على ضحايا أبطال معركة النورماندي (شمال فرنسا) التي قصمت ظهر النازية الألمانية وحلفائها من دول المحور الفاشية، وختمت أوزار الحرب العالمية الثانية، في حضور قادة الدول المنتصرة في الحرب وألمانيا المهزومة ذاتها، تتقدمهم الملكة أليزابيث الثانية ملكة المملكة المتحدة البريطانية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي باراك أوباما، والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، وقرابة 1800 جندي من قدامى المحاربين، الذين مازالوا على قيد الحياة وأرواحهم ترفرف في أجواء مسرح تلك المعركة الضروس الرهيبة.
مثلت نتائج هذه المعركة الطاحنة الشرسة، التي قادها الجنرال الأميركي دوايت ديفيد أيزنهاور (الرئيس 34 للولايات المتحدة الأميركية) وبلغت أعداد ضحاياها أرقاماً قياسية كارثية، حيث قتل فيها من جانب دول الحلفاء قرابة 57 ألف جندي، وأكثر من 155 ألف جريح وحوالي 18 ألف مفقود، وفي الجانب الألماني قتل نحو 200 ألف جندي وأعداد هائلة من الجرحى والمفقودين، ومثلت «انتصاراً حاسماً وجوهرياً» لدول الحلفاء ضد دول المحور النازي والشوفيني، حيث وصف بأنه «أعظم انتصار عسكري» في التاريخ، وشكّل نقطة التحول الكبرى في الحرب العالمية الثانية، والذي باغتت فيه قوات الحلفاء القيادة العسكرية الألمانية، التي كانت قد توقعت أن تأتي ضربة الحلفاء من قواعدها العسكرية المرابطة في مناطق كالي (شمال شرق فرنسا)، وإذا بهم يتفاجأون بأنها جاءت مزلزلة حاسمة من شواطىء النورماندي.
إن من ينظر إلى تاريخ أوروبا والولايات المتحدة الأميركية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، يستطيع أن يدرك، من دون أي جهد، كافة الدعوات التي ظل يطلقها الأوروبيون والأميركيون على مدى عدة عقود مضت، بشأن تقرير مصير الشعوب في أوروبا وحول العالم، والعمل على استئصال ما تبقى من أهوال الحرب وتداعياتها، التي أهلكت الحرث والزرع وغيّرت صورة العالم برمته واستيعاب دروسها وعبرها، التي قد تعني أن المطلوب هو توجّه أوروبا ودول العالم برمته نحو السلم والوئام والبناء الجديد والاستقرار ونبذ العدوان وقضايا الإرهاب والتخلي عن الروح العسكرية النهمة لخوض الحروب وفرض السيطرة والهيمنة واتخاذ القرار الفردي.
ولكن معظم هذه الدعوات لم تكن في حقيقة الأمر سوى مجرد شعارات ومظاهر إعلامية هائلة، أثبتت فشلها في الاستجابة حتى للحدود الدنيا من توفير الأمن والسلام والاستقرار في مناطق عديدة في أوروبا، وفي تلبية طموحات وتطلعات الشعوب الفقيرة والمسحوقة، التي لازالت تناضل من أجل الحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية وحقوق الإنسان، حيث لم تستطع كل هذه الدعوات أن تمنع تكثيف الحروب في البلقان، التي سحقت معظم شعوبها وغيرت خريطة المنطقة، وتسببت بدورها في تمزيق أوصال الاتحاد اليوغسلافي السابق، وبقاء بعض مشاعل نيرانها صامدة تحت رماد الصراعات القومية والدينية والمنازعات الحدودية وحروب الأقاليم.
ولم تكن الاضطرابات المتوحشة والحرب الدامية التي شهدتها أوكرانيا في الفترة الأخيرة، وتسببت في انسلاخ أجزاء واسعة ومهمة من كيانها السياسي والاجتماعي والجغرافي، سوى دليل قاطع على أن أوروبا، رغم تطورها وتقدمها في شتى ميادين الحياة العصرية، ورغم التغيرات الكبيرة الكاسحة، التي أوصلت أجيالاً وطلائع جديدة في أوروبا إلى قيادة المجتمع المدني المتطور، لم تستطع أن تتخلى عن كبريائها وتحدياتها المرعبة وتجاوز التاريخ السياسي والعسكري الذي سيطر عليه فكر القادة السياسيين والعسكريين التاريخيين، الذين كانوا يعتقدون بأن المهمات الرئيسية، لترسيخ عظمة بلدانهم وتحضرها وتقدمها وازدهارها، هي في خوض الحروب الضروس لاحتلال البلدان الأخرى الضعيفة وذات الثروات الطبيعية والإنتاجية المتعددة والتحكم في مصائر شعوبها وجميع قراراتها الوطنية. ولذلك بات معظم القادة السياسيين والعسكريين في أوروبا وكأنهم منشغلون اليوم بأوضاع الماضي، الذي يمكن أن يستحضروا فيه إنجازات وبطولات المقاتلين الأوائل، الذين ساهموا في صنع الانتصارات الباهرة والمدوية على النازية والفاشية، أكثر من انشغالهم بأوضاع الحاضر والمستقبل، مع ما يظهر من ذلك كله الاعتراف بالعجز المستمر في تحقيق الأمن والسلام والاستقرار في العديد من المناطق، التي لاتزال ساخنة وتشهد منازعات وحروباً دامية في شرق وجنوب القارة الأوروبية.
وأما بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، فإنها منذ ذلك الوقت بقيت تتصدر عمليات شن الحروب والعدوان على البلدان والمناطق العالمية التي تشهد الاضطرابات والمنازعات، أو تشهد نمواً وازدهاراً كبيرين في مختلف أوجه الحياة الوطنية العامة، وتستخدم نفوذها السياسي والدبلوماسي والاقتصادي للتأثير على مختلف القرارات والإجراءات الدولية المتعلقة بحفظ السلام في العالم، بوصفها ضرورة وجودية وأحادية لـ «إنقاذ العالم» من براثن الإرهاب والتخلف، الأمر الذي يفهم منه أن طعم السلام والاستقرار والأمن الشامل في أوروبا وحول العالم لايزال مر المذاق، وأن شيئاً من مخلفات هذه الحرب لايزال قائماً، ويثير الخوف والقلق على مستوى الدول والشعوب.
ولذلك يتطلب من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، إعادة النظر في تفكيرهم الاستراتيجي، الذي يضع القوة في المقام الأول من أولويات التعاطي مع الدول والشعوب الأخرى، وتبديد مخاوف «الآخرين» من عودة بلدانهم إلى زمن الاستعمار والتبعية الأجنبية، والإحجام عن إشعال الحروب والتدخلات المباشرة وغير المباشرة في الشئون الداخلية والخارجية لجميع الدول المستقلة وذات السيادة.