الشجاعة في مواجهة العنصرية المخيفة
كان الرئيس الألماني جواكيم غاوك، على رأس تظاهرة حاشدة شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين الألمان والمهاجرين، خرجت يوم الاثنين (9 يونيو/ حزيران 2014) بمناسبة إحياء الذكرى العاشرة لهجوم عنصري بقنبلة مسمارية نفذته خلايا نازية، في أحد شوارع مدينة كولونيا، رابع أكبر المدن الألمانية (غرب البلاد)، التي تقيم فيها غالبية من اللاجئين والمهاجرين، وراح ضحيتها قرابة 22 شخصاً بعضهم أصيب بجروح خطيرة، وكذلك تخليد أرواح ضحايا العنصرية والنازية في ألمانيا.
الرئيس الألماني دعا عبر كلمة عاطفية الرأي العام الألماني، إلى ضرورة وضع حد للانتهاكات الصارخة التي يتعرض لها المهاجرين في ألمانيا، والإقدام على «وقفة وطنية شجاعة في مواجهة العنصرية والنازية الجديدة» التي قد تشوّه الصورة الديمقراطية والإنسانية والأخلاقية المكرسة في الدستور ومختلف القوانين الألمانية، واصفاً ألمانيا بأنها «البلد الذي يمكن أن يكون فيه الناس مختلفين ولكن من دون أن يشعروا بالخوف». ولهذا كانت تصريحاته للصحافيين متفائلة جداً لمستقبل الشراكة المجتمعية الحميمية بين الألمان والمهاجرين في المستقبل القريب، في ضوء ما بدأت تشهده البلاد تدريجياً من انحسار وتراجع بعض الأفكار اليمينية المتشددة والمتطرفة، مقارنةً بالسنوات السابقة، في الوقت الذي لاتزال فيه مؤشرات العداء تجاه المسلمين وغجر الروما مستمرة على نحو تصاعدي بحسب دراسة توثيقية أجرتها جامعة لايبتسيغ الألمانية مؤخراً.
الوقفة «الوطنية الشجاعة ضد العنصرية والنازية» التي أجّج الرئيس الألماني جواكيم غاوك بها عواطف الشعب الألماني من خلال جوهر مضمونها الإنساني والأخلاقي، بالقول إن مدينة كولونيا ردّت على الكراهية والحقد من فئة ضيقة محدودة بمواساة وتضامن فئات كثيرة، قد تدفع بالآخر أن يتخيل حياته من خلال هذا الواقع، وأن يدرك أن الاستقرار الاجتماعي والأمني في ألمانيا يحل عندما يتصدى الجميع لكل مظاهر العنصرية والنازية، ولا يشعر اللاجئون والمهاجرون الذين باتوا يشكلون اليوم قرابة 20 في المئة من سكان الدولة الألمانية، بالرعب والقلق والخوف من المستقبل بسبب تصاعد موجة العنصرية والنازية الجديدة، التي شهدتها البلاد خلال السنوات الأخيرة.
ويبدو المشهد الحالي في ألمانيا معبّراً تماماً عمّا تحدث به الرئيس جواكيم غاوك من حيث تجاوب الغالبية الشعبية مع «الوقفة الوطنية الشجاعة» التي قد تكرّس للدولة والشعب الهيبة والكرامة المعهودة بعد اندحار النازية الأصلية الهتلرية وفلولها أمام زحف الديمقراطية ومفاهيم التآخي والتسامح وحقوق الإنسان، وتحاول أن تقطع أو تعرقل طريق التقدم الحثيث لقوى العنصرية والنازية الجديدة في ألمانيا، التي أخذت تكشر عن أنيابها من جديد، بعد «الانتصارات الملفتة» التي حققتها مع مثيلاتها في أوروبا، سواء على صعيد الانتخابات المحلية البلدية والتشريعية، أو على مستوى انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة.
العنصرية والنازية الجديدة، هي مسألة خطيرة ومقلقة، ولا تقتصر مضارها ومخاطرها على بلد دون آخر، إنما هي ظاهرة عالمية مخيفة، بدأت تقلق جميع الحكومات والشعوب في العالم، وتشكل خطراً محدقاً على الأمن والتعايش السلمي المجتمعي والاستقرار والسلم الدولي، بعد أن تمددت أذرعها في مناطق عدة في القارة الأوروبية وحول العالم، وأصبحت لها مرجعيات ترسم وتخطط وتشرع لها أبواب الافتراء على المكونات البشرية الأخرى، التي تعتقد أنها ليست أكثر من مجرد «مخلوقات من نوع آخر»، وتتصدى لها بمختلف أدوات الثقافة العنصرية والنازية المتوحشة والمخيفة، الأمر الذي يفرض على جميع الحكومات والقوى المحبة للسلام في العالم برمته، بذل كافة الجهود المطلوبة لمواجهتها ومكافحة تبعاتها بروح وطنية وعالمية شجاعة، وهو المطلوب بإلحاح لكي لا تتكرر مآسي الاعتداءات العنصرية والنازية على طالبي اللجوء والمهاجرين وغيرهم من الأقليات القومية والعرقية، التي تحاول القوى العنصرية والنازية فصلها عن المكونات المجتمعية العامة في كل مناطق العالم.