مسجد «خير البرية» في الدنمارك… وجدل السياسة والدين

رأى كبار المسئولين الدنماركيين، وكذلك الشخصيات الثقافية والدينية التي تمثل الاسلام الأوروبي، والتي تمت دعوتهم رسمياً من قبل المجلس الاسلامي الدنماركي للمشاركة في حفل افتتاح مسجد «خير البرية» في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن، في 19 يونيو/ حزيران 2014، وتغيب جميعهم عن المشاركة في مشروع يأمل من خلاله المسلمون المقيمون في البلاد، تجاوز محنة صراع استمر قرابة 9 سنوات بين الجالية المسلمة والمتطرفين والعنصريين في الدنمارك، وفي رغبتهم الجامحة لتكريس وتعزيز الحوار مع الثقافات الأخرى في المجتمع الدنماركي. رأوا بأن هناك «هيمنة قطرية» مباشرة أو شبه مباشرة على مشروع المسجد الكبير والنموذجي، التي تكفلت بدعمه ورعايته، وكذلك الجالية المسلمة في البلاد، حيث تبرعت بجميع التكاليف الأساسية لهذا المشروع، التي تبلغ مساحته قرابة 6700 متر مربع، ويضم إلى جانب جامع الصلاة، مركزاً ثقافياً واستوديو تلفزيونياً وصالة رياضية، وبعض المرافق ومكاتب صغيرة، قدرت بحوالي 21 مليون يورو، وذلك في تحليلاتهم ونظرتهم لمضامين وأهداف هذا المشروع بالنسبة لمباديء الحريات الديمقراطية وحقوق الانسان.

وكشف عضو الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم في الدنمارك لارس إصلان راسموسن في تصريح صحافي حول هذا الموضوع لجريدة «برلينسكي» اليومية، أن تلقي مشروع مسجد «خير البرية» أموالاً من دولة قطر يعتبر من المواضيع الحساسة وذات الإشكالية الكبيرة بالنسبة لقضية الديمقراطية وحقوق الانسان، باعتبار أن قطر -بحسب راسموسن ـ هي «دولة دكتاتورية»، وتعتمد على مصادر ثروتها الوطنية فقط من النفط والغاز، ولها سجل سيء في العديد من القضايا الاجتماعية والحقوقية العامة، وهي لا تحترم حقوق الإنسان الأساسية المعترف بها في القوانين والمعاهدات الدولية.

ومن جانبه صرّح رئيس حزب الشعب الدنماركي اليميني المتطرف، الذي فاز حزبه بأغلبية المقاعد الدنماركية في الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة للعام 2014، كريستيان توليسن دال، إلى الصحافيين، بأن قطر تأمل على ما يبدو بممارسة تأثيرات إجتماعية ودينية واضحة على مسلمي الدنمارك من خلال هذا المشروع، بصورة قد تشوّه عملية اندماجهم في المجتمع وتطوير علاقاتهم الثقافية والاجتماعية مع القوميات والإثنيات الأخرى على مستوى البلاد، وذلك على الرغم من نفي المتحدث باسم المجلس الإسلامي الدنماركي محمد الميموني، بوجود أية صلة لدولة قطر في ما يخص رعاية أو حتى إدارة هذا المشروع، بالقول إنهم «ليسوا معنيين بسياسة دولة قطر على المستويين الوطني والدولي، وليس لديهم أية صلة بكل ما يحدث من أمور خاصة في الساحة القطرية»، واصفاً الأموال المقدمة من دولة قطر بأنها ليست أكثر من كونها «هبة سخية» من دولة مسلمة ومن دون أية شروط مفروضة.

ويذكر أن العلاقة بين الدنماركيين والجالية المسلمة في البلاد، قد تعرّضت منذ قرابة 9 سنوات، إلى حملات تشهير وعنف متبادل بين المتشددين والمتطرفين من الدنماركيين وجماعات متباينة من الجالية المسلمة على خلفية الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد (ص)، وكذلك بالنسبة للمواقف الحكومية والشعبية الأخرى المتحفظة بعلاقاتها تجاه الاسلام والمسلمين حول العالم، حيث سبق أن أصدرت المحاكم الدنماركية في العام 2012 أحكاماً قضائية بالسجن لمدة 12عاماً على أربعة أشخاص أدينوا بالتخطيط لاغتيال مسئولين وموظفين في صحيفة «يولاند بوسطن» التي نشرت الرسوم الكاريكاتورية في العام 2005.

وتتفق آراء جميع المسئولين الدنماركيين الذين قاطعوا حفل افتتاح مشروع المسجد الكبير، بما فيهم العائلة المالكة ورئيسة الوزراء هيلة تورننغ سميث، التي وجهت لهم الدعوة الخاصة الرسمية للمشاركة، ولم يتجاوبوا معها، لأسباب قيل أنها تتعلق بحساسية مشروع اجتماعي عقائدي، تم تمويله من قبل دولة تشوّه صورتها انتهاكات حقوق الإنسان وفضائح تنظيم مسابقة كأس العالم للعام 2022، ويهدف بشكل أساسي إلى طرح مطامع ورغبات سياسية محضة، وليست ذات صبغة دينية صرفة، كما كانت تروج لها دائماً الوسائل الصحافية التابعة للمجلس الإسلامي في الدنمارك، وكذلك الدعاية الإعلامية القطرية، من أن المهمة هي دينية وتثقيفية وتأهيلية محضة للشباب المسلم، وبذلك تبقى ردود الفعل حول هذا المشروع مفتوحةً لكل الاحتمالات بحسب المراقبين.

ويخشى هؤلاء المسئولون من أن تتيح الأموال القطرية الضخمة المخصصة لمثل تلك المشاريع، الفرصة السانحة لمختلف القوى والفصائل الإسلامية المتشددة والمتطرفة جداً من منطقة الشرق الأوسط أو غيرها، بأن تمارس ما يحلو لها من أعمال إرهابية وفوضوية يومية، ليس في الدنمارك وحدها إنّما في مختلف مناطق العالم.

والحقيقة أن ما يعترض عليه معظم المسئولين السياسيين والمثقفين والحقوقيين في الدنمارك، هو ليس بناء المسجد الذي يمثل خصوصية دينية وثقافية واجتماعية مقبولة ومنسجمة مع التشريعات والقوانين الدنماركية حول تعدّد عناصر المجتمع والثقافات والأديان، التي تحترمها النصوص والبنود المكرسة في الدستور الدنماركي، بل هي في عملية تسييس الدين والترويج لاستخدام الأفكار الهدامة والمناهضة للحريات، في بلد متحضر ومتقدم جداً وملتزم بقضايا الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان المعروفة على المستوى العالمي.

وعلى الرغم من أن المسلمين في الدنمارك، الذي يبلغ تعدادهم في الوقت الراهن قرابة 200 ألف نسمة، يعتبرون نهوض مشروع هذا المسجد الكبير إلى النور «انتصاراً باهراً» لنضالاتهم من أجل تأكيد هويتهم الإسلامية، التي واجهت عبر سنوات طويلة موجات عارمة من الاحتجاجات والخلافات، وأحياناً كثيرة صراعات عنف مع الدنماركيين وخصوصاً القوى المتعصبة والمتطرفة منهم، بسبب المعتقدات الدينية واختلاف العادات والقيم والتقاليد؛ وإصرارهم على القول بأنهم تقدّموا بخطوات كبيرة على زمن فرض التعاليم الكلاسيكية التقليدية في الإسلام. إلا أن كافة القوى العنصرية والشوفينية في الدنمارك، ترى من جانبها أن الإسلام دين يمكن أن يشكل خطراً محدقاً بالبلاد على المديين الراهن والمستقبلي، في ظل تنامي موجات الهجرة من دول إسلامية متخلفة كانت ولاتزال تتمسك بإرث العصبيات القبائلية والعشائرية المقيتة، وتاريخ الماضي «التقليدي الجاهلي» الذي لا يحترم ولا يعترف بوجود الآخر، ولا ينسجم بالمطلق مع تراث ومفاهيم الحضارة المتقدمة والعصرية.

Loading