«ماما ميركل»… المرأة الحديد تسير على خطى الزعماء العظام
ظلت المستشارة الألمانية أنجيلا دوروتيا ميركل، منذ أن خاضت معترك الحياة السياسية في ألمانيا مع حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، بعد توحيد شطري ألمانيا في أكتوبر/ تشرين الأول 1990، تبسط ظلها ليس فقط على ألمانيا وحدها، بل أيضاً على القارة الأوروبية برمتها. وفي رأي الكثيرين وبحسب مجلة «فوربس» الأميركية، التي نشرت قائمة الشخصيات الأكثر قوة في العالم للعام 2011، أنها أقوى امرأة في العالم.
في يوم الأربعاء (16 يوليو/ تموز 2014) احتفلت المستشارة ميركل والشعب الألماني بعيد ميلادها الستين، وسط بهجة عارمة انتشرت في عموم البلاد بالتزامن مع نشوة «الانتصار الرياضي التاريخي» الذي أحرزته ألمانيا في كأس العالم في البرازيل 2014، والذي سيبقى في ذاكرة الأيام الألمانية بمثابة عيد شعبي إلى الأبد، ومحفز لها في مباشرة الغد الأفضل للأجيال الشبابية والرياضية القادمة.
كرست المستشارة ميركل أو «ماما ميركل» كما يحلو للألمان تسميتها، والتي نشأت وترعرعت وسط عائلة بروتستانية متدينة من أصول بولندية، من أب كان يعمل قسيساً في الكنيسة الإنجيلية في مدينة تيمبلن التابعة لولاية براندنبورغ في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) سابقاً، وكرّست الجزء الأكبر من حياتها في تلقي العلوم والآداب، وكانت شابة نشطة ومنضبطة وملتزمة ومتفوقة ومتواضعة جداً. وقد أنهت دراستها الثانوية في مدينة براندنبورغ في العام 1973 بتفوق، ثم درست علوم الفيزياء في جامعة كارل ماركس في مدينة لايبزيغ، التي تخرجت منها بشهادة الدكتوراة في مجال تفاعلات التحليل الكيميائي، وكانت في ذلك الوقت عضواً في منظمة الشباب الاشتراكي، التي تعتني بمسائل التربية الحزبية ورعاية الشباب وأجيال المستقبل في ألمانيا الديمقراطية سابقاً. وعملت في أكاديمية العلوم الحكومية الرسمية بعد التخرج الجامعي.
وبعد الفترة التي أعقبت انفصالها عن زوجها الأول أولريش ميركل، توسعت نظرة اهتمامها بالمجال السياسي، وانخرطت في صفوف حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وبعد فترة قصيرة من النشاط والمثابرة والعطاء الحزبي وجدت نفسها من أقرب المقربين إلى المستشار الألماني هلموت كول، الذي فتح لها الأبواب على مصراعيها لصعود السلم السياسي وتولي أعلى المناصب الحزبية. ففي العام 1990 أصبحت عضواً في البرلمان الألماني، ثم شغلت منصب وزيرة المرأة والشباب، ومن بعدها وزيرةً للبيئة والمسئولة عن سلامة المفاعلات النووية الألمانية في الحكومتين الأولى والثانية للمستشار هلموت كول.
وفي العام 1998 تبنى رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الأسبق فولفجانج شويبله، اقتراحاً على قادة الحزب وقواعده يهدف إلى تولي ميركل منصب الأمين العام للحزب، وبعد مضي 4 سنوات من ذلك أصبحت ميركل بالفعل رئيسة للحزب. وفي العام 2005 حققت فوزاً ساحقاً مع حزبها في الانتخابات التشريعية الألمانية لتصبح أول مستشارة لألمانيا وُلدت وترعرعت في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، لتخلف بذلك المستشار زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني غيرهارد شرودر.
وقد سارت ميركل على خطى الرؤساء وزعماء الدول الأوفياء والمخلصين والمتواضعين للغاية، الذين ابتعدوا عن ملذات أسلوب حياة الأباطرة والعيش الرغيد في القصور الفخمة المرصعة بكنوز الفنون والتقنيات الأثرية المصنعة من الذهب الخالص والفضة والأحجار الكريمة وموائد الأطعمة الفاخرة الشهية والهدايا الثمينة، ونجحوا بالفعل في كسب ود وتأييد شعوبهم، من أمثال رئيس جمهورية الأورغواي خوسيه موخيكا (77 عاماً) الذي رفض بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية في الأورغواي الانتقال إلى القصر الرئاسي الفخم، واختار العيش في مزرعة صغيرة في ضواحي العاصمة مونتفيديو تمتلكها زوجته، ويتبرع بنحو 90 في المئة من راتبه الرئاسي البالغ قرابة 12 ألف دولار شهرياً إلى الفقراء والمسحوقين.
وكذلك رئيس وزراء الدنمارك الأسبق أنكل يانسن، الذي حكم الدنمارك أكثر من 12 عاماً، ورفض هو الآخر بعد فوز حزبه في الانتخابات، الانتقال إلى «قصر ماريا بور» المخصّص لإقامة رؤساء وزراء البلاد، وفضّل السكن مع عائلته المكوّنة من 4 أشخاص في شقة صغيرة في أفقر ضواحي العاصمة كوبنهاجن، مكوّنة من ثلاث غرف ضيقة وأثاث ومقتنيات بسيطة، عاش فيها على امتداد 45 عاماً من الزمن، ويتبرع بأغلب راتبه الرسمي إلى بعض المؤسسات الخيرية والفقراء.
تعيش المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل مع زوجها الثاني يواخيم زاور، أستاذ الكيمياء الفيزيائية والنظرية، في شقة متواضعة وسط العاصمة برلين، بين أفراد شعبها بشكل عادي بحيث يمكن للآخرين مشاهدتها في أحد الأسواق التجارية أو الأماكن ذات الطابع الشعبي العام، بعيداً عن صخب حفلات القصور وملذاتها ومفاتنها الزائلة، وبهذا تكون أفعال وحياة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الشامخة والجادة والمتقشفة، متعارضة مع ما رواه البخاري من أنه «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة».