تطبيق الدين … بسفك الدماء ودفع الجزية وتهجير الناس

يتضح بكل صراحة مطلقة من قرارات وطروحات وأحكام «دولة داعش» التي أعلن أعيانها وولاة أمرها أنهم يمثلون «دولة الخلافة الاسلامية الراشدة» التي سوف تحتضن في ربوعها المترامية الأطراف على نحو قد يغطي نصف الكرة الأرضية، جميع المسلمين في العالم، وسوف تحمل راية التوحيد عالية خفاقة حتى تكتمل جميع مؤسسات الخلافة بعد 20 عاماً من الزمن.

إنها تعيش حياة القرون الماضية السحيقة، التي تحتكر فيها سلطة الحكم جميع الحلول والسلطة وفرض المعتقدات الدينية بواسطة الحروب والغزوات الدامية، وتكريس القوة الغاشمة على الآخرين.

ولم تكن دولة الإسلام الأصيل والحقيقي، التي بنيت على أصول عقيدة سامية وأخلاق رصينة وتعايش ديني مع الإثنيات والأديان الأخرى ومبادئ وأنظمة شاملة متكاملة ترتكز على قواعد الأمن والاستقرار والتسامح والصلح ونبذ التسلط والظلم والاستعباد المطلق، طوال تاريخها المديد في العصور الغابرة، لم تكن أبداً ذات وجهة انتقامية وعدوانية حاقدة ضد الديانات السماوية الأخرى، أو ضد من يخالف شرائعها ومعتقداتها وطروحاتها الفقهية والدينية، ولم تكن الأنظمة السياسية التي ظلت تمارس الحكم تحت مسمى «الدولة الاسلامية» في هذا البلد أو ذاك في العصر الحديث والمعاصر، قد بالغت في فرض الدين والتدين عبر قوة السيف والدم، أو تكفير الناس الذين يختلفون معها في المعتقدات والممارسة الدينية، ولكن «دولة داعش» التي تدّعي بأنها «الدولة الحامية» لأصول الإسلام، والتي تعتبر نفسها الوريث الشرعي والحقيقي لدولة الإسلام، تبقى وحدها فقط خارج العصر وخارج سنة التطور من خلال دعوتها لتطبيق الدين بقوة السيف وفرض ضرورة الأمر الواقع على الآخرين، على رغم ما كان قد ادّعاه أبو محمد العدناني المتحدث باسم «داعش» في البيان الأول الذي تلاه لمناسبة «نهوض الدولة الداعشية» الأولى بعد الغزوة الجاهلية المحمومة لمحافظة نينوى في العراق، وهو أن «راية الدولة الاسلامية… راية التوحيد أصبحت عالية خفاقة والناس في ربوع هذه الدولة منتشرون في معاشهم وأسفارهم آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم».

بعد إعلان هذا البيان، الذي تخللت كل جوانبه شعارات الطمأنينة والأمن والاستقرار وحماية أموال الناس وممتلكاتهم وأعراضهم، شنت جحافل قوات «دولة داعش» بشكل مباشر ومباغت حرب إبادة وتهجير شرسة للغاية على طريقة «الدولة العبرية» الوحشية المطبقة حالياً في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، ضد الأقليات الإثنية والدينية من المسيحيين والتركمان والشيعة في كل من العراق وسورية، قتلت خلالها بدماء باردة وحاقدة مئات الأشخاص، وأمعنت في قهر الناس وسحقهم وهدم المنازل والكنائس والمعابد والمساجد وكل تراث هذه المكونات بالمتفجرات ومعاول الهدم وباستخدام الأسلحة الثقيلة الفتاكة.

وأصبحت جميع المدن والمناطق التي غزتها «دولة داعش» سواء في العراق أو سورية، تعيش الآن عصر الظلمات المعتمة والمخيفة، وليس عصر التنوير الذي حملت شعلته دولة الإسلام الصحيح، والتي تدعي «دولة داعش» بحمل رايتها الخفاقة في ربوع دولتها المصطنعة والمناهضة للديانات السماوية الأخرى ولكل تقدم وتطور حقيقي.

ولذلك فإن كل من كان قد زار هذه المدن والمناطق أو «الولايات الاسلامية» كما تسميها إعلانات وأدبيات «داعش» لم يجد أهلها أكثر احتفالية وشعوراً بالزهو والنصر، لاسيما وأن جميع هذه «الولايات» قد منيت بكوارث إنسانية واقتصادية كبيرة، بفعل أعمال القتل والبطش والتنكيل والهدم المنهجي لمقدسات وتراث وتاريخ الأقوام التي ظلت تتعايش بسلام ووئام على امتداد قرون في كل هذه المناطق الحيوية العريقة، وتسطير البدع والخرافات الجاهلية القديمة، جعلت القلق والرعب يدب في نفوس السكان الذين طالما كانوا يشعرون بالاستقرار.

والأخطر من فرض القيود الدينية والقتل على الهوية في جميع المناطق الخاضعة لسيطرة أو احتلال «دولة داعش»، هو أنها فقدت في فترة لا تزيد على بضعة أشهر، شخصيات كبيرة من أصحاب العلم والمعرفة والفكر المستنير والرؤية الحكيمة الذين يظلون دائماً ينصحون الناس ويرشدونهم إلى الصراط المستقيم، ونبذ ثقافة الكراهية والاختلاف في الدين، ويغرسون في نفوسهم روح المحبة والوحدة والأخوة والمصير الإنساني المشترك.

هكذا تركت «دولة داعش» بصمات مجد «حكمها الاسلامي» المهووس بواقع الغرائز الانتقامية الوحشية والتكفير والقتل على الهوية الدينية وغرور القوة، في وقتٍ يواجه فيه العالم الإسلامي برمته مشاكل معقدة وخطيرة، غدت عائقاً كبيراً في وجه أي تحدٍ في شأن المنافسة الدولية.

ومعنى هذا أن ثمة مآسٍ أفظع سوف تواجه جميع المدن والمناطق الخاضعة لنفود «دولة داعش» الحالية، وأهمها حالة الفلتان الأمني وفرض القوة الغاشمة واليأس من الخلاص لدى غالبية الناس الذين تضرّروا من هذا الواقع الجديد المؤلم، بعد أن يتخلى، عن نصرتهم وخلاصهم وحماية ممتلكاتهم وأعراضهم وتراثهم ومعتقداتهم جميع المدافعين عن القيم الإنسانية والأخلاقية والحريات الدينية والفكرية والثقافية وحقوق الإنسان.

Loading