التناقض بين الديمقراطية والسلطة

يقول الكاتب والفيلسوف والثائر جان جاك روسو، الذي ساعدت فلسفته الواقعية في رسم الأحداث السياسية الكبرى، ولعبت دوراً بارزاً ومهماً في قيام الثورة الفرنسية ضد الدكتاتورية الملكية في العام 1789 «لا توجد ديمقراطية حقيقية في العالم». وهذا صحيحٌ لأن معظم الأنظمة السياسية حول العالم بما في ذلك بعض الأنظمة الديمقراطية العريقة، بقيت تستغل الأهداف والقيم الديمقراطية النبيلة فقط لحماية أوضاعها وتكريس وتعزيز السلطة في أياديها تحت مبررات تبدو واهية ومضللة، وهي «توطيد الأمن والسلام والاستقرار»، وتفرض قوتها وهيبتها المطلقة من خلال تعاملها مع القضايا الوطنية والدولية.

ويتحدثون دائماً عن أصول وقيم وأهداف ومبادئ الديمقراطية الواقعية وحقوق الإنسان، ولكن جوهر سلطتهم وحكمهم هو الاستبداد المطلق وفرض القيود الصارمة والمقننة على حريات غالبية الشعب، ويحاولون إجهاض الثورات الوطنية ويرفعون مستويات المصالح الذاتية فوق مستوى الأخلاق والقيم والمبادئ.

فالديمقراطية الحقيقية الواقعية تنمو وتزدهر عندما تكون هناك أنظمة عادلة مبنية على قاعدة العدالة الاجتماعية والحرية للجميع، وتكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروة، وعندما يشعر الناس بأنها أصبحت واحدةً من جملة العوامل الضرورية المتاحة لمعالجة مشكلات الحياة العامة في المجتمع، وتصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتهم العملية والأخلاقية والروحية.

والديمقراطية الحقيقية الصحيحة، لا يمكن لها أن تنمو وتزدهر في أي مجتمع من المجتمعات، سواءً في الدول المتقدمة أو على مستوى الدول التي لازالت في طور التنمية والتطور، ما لم تنمُ وتترعرع في تربة صالحة وتدعمها على نطاق واسع مختلف قوى المجتمع.

أن إقامة مجتمع مدني ديمقراطي متطور ومواكب للعصر، يتطلب وجود ضمانات حقيقية واسعة وجوانب إيجابية متنوعة للممارسة الديمقراطية والحريات الأساسية الفردية والعامة. وتتمثل أبرز هذه الضمانات في إعطاء الحق لكافة أفراد المجتمع في مراقبة تصرفات السلطة الحاكمة وفي مدى تقيدها وارتباطها بالمصالح الشعبية والوطنية العليا، ووجود شبكة متنوعة من المنظمات الديمقراطية والحقوقية الأهلية متعددة الانتماء، تطرح شعارات حق المواطن في المشاركة الفعلية في صنع قرارات الدولة والمجتمع من دون أية ضغوط أو إغراءات سياسية أو اقتصادية أو معنوية من أحد. وإطارات عامة لمؤسسات قانونية تحميها أنظمة قضائية مستقلة ومتحررة من قيود السلطة، وصحافة حرة وآفاق واسعة للرأي العام ونقد ورقابة ومكاشفة رسمية وغير رسمية، وبنية تحتية اجتماعية واقتصادية متطورة، ومراقبة ومحاسبة السلطة الحاكمة الرسمية على أفعالها أمام المجتمع.

ويستوجب المجتمع المدني الديمقراطي، توفر شروط موضوعية ومقومات حضارية وثقافية وتنموية مهمة ضمن المجتمع لتسهيل جعله مدنياً، حيث تدار مختلف المنظمات الأهلية المدنية بالوسائل الديمقراطية وروح التسامح وقبول الرأي والرأي الآخر.

ولا يمكن للديمقراطية والحقوق والحريات العامة، أن تتوسع وتتطور وترتقي في ظل مجتمعات تخضع لسلطة شمولية تتعمق فيها نزعات الاستبداد والتسلط والقهر والتفرقة القائمة على أسس قومية أو عرقية أو إثنية أو طائفية أو مذهبية، والتمييز والغطرسة ونشر الكراهية والعنف والخوف من وجود الآخر.

إن الديمقراطية تتطور وتنتعش وتكون في مستويات أفضل عندما يتحقق للمجتمع قدرٌ واسعٌ من الحريات وفرص المساواة والعدل الاجتماعي والاقتصادي، وحماية الحقوق والواجبات والحريات، وهي التي يمكن أن تجعل النظام الديمقراطي التعددي حقيقة قائمة على أرض الواقع.

وتعتبر قضايا السلم والأمن والاستقرار من أهم القضايا المرتبطة بعوامل تكريس وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومن المؤسف للغاية أن تستغل بعض الأنظمة السياسية الحاكمة، مختلف قضايا الصراع والحروب والمنازعات الوطنية أو الإقليمية أو الدولية من أجل تغييب الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفرض ضرورات الأمر الواقع على المجتمع.

Loading