النعيمي والجمري… حضور ماثل رغم الغياب

رحم الله المناضل الوطني والأممي عبدالرحمن محمد النعيمي وشيخ المجاهدين الشيخ عبدالأمير الجمري، لو قدر لهما البقاء حيين حتى اللحظة لضاقا ذرعاً وامتلآ بالشعور بالغصة حسرةً على ما قد يريانه من أوضاع مأزومة ومقلقة تعيشها الساحة البحرينية في الوقت الراهن، ومن صراع سياسي مسعور وتعميق الشرخ الطائفي، وسباق محموم على جني الامتيازات والمصالح الاقتصادية والاجتماعية، التي تُمنح للمغامرين والطامحين في الحياة المرفهة والصعود إلى المجد بكل الوسائل.

كان عبدالرحمن النعيمي والشيخ الجمري، وأجيال سنوات الستينيات حتى التسعينيات وما قبلها، قد ذاقوا الأمرّين جرّاء الملاحقات والمطاردات والاعتقالات والتشريد والتعذيب الوحشي، وهم يرفعون راية الدفاع عن الفقراء والمحرومين، ويندمجون بكل قضاياهم وهمومهم ومشاكلهم، ويناضلون من أجل وطن يتسع للجميع، ويؤكدون على تكريس وتعزيز العلاقات والروابط الأخوية وحماية الشراكة المجتمعية وحفظ الرموز الوطنية، التي يمكن أن تلعب الدور الضامن للمشاريع الوطنية المنشودة والعيش الآمن والمشترك بين جميع مكونات وطوائف المجتمع البحريني، ونبذ العنف ومظاهر التفرقة الطائفية وتجاوز عقدة التعصب الايديولوجي، التي برزت بشكل ملفت في الساحة البحرينية عبر تلك الحقبة المأزومة، ودفعوا أثماناً باهظة من حياتهم وأوقاتهم وأعمالهم وأموالهم، من أجل السعي لقيام دولة المؤسسات والقانون، ومن أجل أن يصبح هناك شعب مسلح بروح العلم والثقافة والسياسة والاقتصاد، ويكون قادراً على تحمل المسئولية الوطنية بكل معانيها السامية.

في ذلك الزمن الصعب كان طريق النضال وعراً ومليئاً بالأشواك والمعاناة والتضحيات الكثيرة، إذ لم تكن هناك مطامع مادية ولا أحلام وردية جانحة لتسلّق أسوار الرتب والمناصب والامتيازات على حساب الطبقات والفئات المناضلة والمحرومة والفقيرة. كانت هناك فقط مبادئ وقيم وأخلاقيات النضال الحقيقي والجوهري المجردة من أية اعتبارات مادية أو حزبية أو فئوية أو شخصية. ونستطيع القول لو بقي النعيمي والشيخ الجمري على قيد الحياة حتى اللحظة الراهنة، لتغيّرت أمور مهمة في الساحة البحرينية على صعيد السياسة والمجتمع.

انتهى ذلك الزمن الزاخر بالعطاء والتضحيات الجسام الكبيرة، بعد أن أصبحت قضايا النضال في الوقت الراهن مجرد مشاريع أحلام يستفيد من خلالها أشخاص مغمورون خدمتهم الأوضاع السياسية والاجتماعية الحالية ليصبحوا فجأةً مناضلين، وينالوا بعض الشهرة التي لم يحلموا بها، وظلوا يسعون في سباق محموم لتسلق المجد من أطرافه، والوصول إلى غايات معينة حتى لو كان ذلك على حساب تضحيات الفقراء والبسطاء والشهداء والثكالى. لكن بواقع الحال مازالت هناك قلة قليلة في الوقت الراهن تتمسك بالقيم والأخلاق والتضحيات النضالية السابقة، التي تمسك بها المناضلون والمجاهدون الأوائل.

هي كارثة بالفعل، أن يبرز جيل جديد من المغامرين وأنصاف المناضلين، ممن يسعون لركوب موجة النضال في الساحة البحرينية في هذا الزمن المنكسر، الذين كانوا متوارين خلف الأبواب في زمن البطش، الذي فرض فرضاً على المجتمع، وذلك على حساب تضحيات صفوة القوم من النشطاء السياسيين والحقوقيين والاقتصاديين والمثقفين التاريخيين والجدد الملتزمين، والتي تبنى عليهم القوة النضالية الحالية، في ظل عدم إجماع الرأي العام أو حتى شرائح وفئات قليلة من الناس على تصدرهم الواجهة.

لقد كان النعيمي والشيخ الجمري في زمن نضالاتهما المتسم بالمفارقات والمنازعات السياسية والاجتماعية المعقدة والخطيرة، يمثلان عناصر توازن في قوة المجتمع البحريني برمته، لأنهم كانوا يستمدون مثلهم في قضايا النضال من قوة الفكر والإيمان الصادق بشأن القضية وحب الرأي العام وتأييده لهم.

أما من دخلوا في سوق المضاربة السياسية خلال السنوات الأخيرة، وتخلّوا في زمن الفتنة الطائفية والمذهبية، عن ممارسة أساليب العمل السلمي والحضاري والمواطنة الجامعة والدعوة إلى معالجة الخلاف والاختلاف بين مختلف مكونات المجتمع البحريني بالحوار البناء، الذي ظل يتمسك به النعيمي والشيخ الجمري ورفاقهما، فهو دليل على مغادرة النجاح النهائي في استيعاب دروس الماضي والقضاء على أسس الفتنة القائمة الآن بشكل نهائي أيضاً.

نعم… النعيمي والجمري كانا قامتين شامختين في وطن لا يرجف فيه الأمل، ولا تنطفىء فيه شعلة النضال من أجل الأمن والاستقرار وتكريس وتعزيز أواصر الوحدة الوطنية وسعادة وكرامة المجتمع. ناما قريري العين في كنف الأبدية الخالدة، مهما حاول البعض أن يسرق منكما جوهر التجربة ويجيرها لمصلحته من دون أن يستطيع تجسيد حتى بعض ثمارها على أرض الواقع، لأنه مازال هناك الكثيرون من أبنائكم المخلصين الذين تتلمذوا على أياديكم، من يعاهدكم على حمل الراية لاستكمال طريق النضال الوطني الحقيقي، الذي ضحيتم مع كواكب من المناضلين والمجاهدين من أجله، لرفع قامة الشعب وشموخ الوطن.

Loading