«داعش»… طابخ السم آكله
في مقال نشرته صحيفة «صنداي تلغراف» البريطانية مؤخراً، حول «تنظيم الدولة الاسلامية» تحت عنوان: «واجهوا العقائد السامة الآن أو واجهوا الإرهاب في شوارع بريطانيا»، يقول رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، أن «الغرب متورط اليوم في صراع ممتد على مدار أجيال متعددة ضد نوع من التطرف الإسلامي الخطير الذي سيجلب الإرهاب إلى شوارع بريطانيا، إذا لم تتخذ إجراءات عاجلة لمواجهته ودحره».
وأضاف: «إن العالم برمته مطالب الآن بمواجهة هؤلاء المقاتلين البرابرة المتطرفين فوراً، لأنهم سيؤسسون دولة إرهابية على شواطيء البحر الأبيض المتوسط، المتاخمة للقارة الأوروبية، حيث بات العالم يعرف الآن ما لديها من نوايا شريرة قاتلة، وقد شهدت القارة الأوروبية بالفعل أول أعمال إرهابية مستوحاة من إرهابيي (دولة داعش) الاسلامية».
قبل هذا المقال ببضعة أيام (15 أغسطس/ آب 2014) تبنى مجلس الأمن الدولي بالإجماع، قراراً بموجب الفصل السابع ضد تنظيم «داعش» و»جبهة النصرة» بهدف إضعاف نفوذهما في العراق وسورية، عبر إجراءات مشددة تقضي بقطع مصادر التمويل عنهم ومنعهم من تجنيد المقاتلين الأجانب، في خطوة اعتبرها أعضاء مجلس الأمن الدولي بأنها الأوسع في تاريخه لمواجهة الجماعات الإرهابية، التي ظلت تتحدى الإرادة الدولية، والتي أصبحت تتمتع بموضع تأثير ونفوذ حقيقي في مناطق شاسعة من الأراضي العراقية والسورية، في الوقت الذي تحاول فيه تدشين قوة هائلة للعمل على تحقيق مشاريعها السياسية والدينية والجغرافية التي رسمتها في خارطة دولة الخلافة الإسلامية، التي يصل عمقها الاستراتيجي المنشود، إلى قلب القارة الأوروبية.
وعلى رغم ما كان يبدو من حماسة أعضاء مجلس الأمن الدولي المتعلقة بإصدار هذا القرار الجماعي، والذي اعتبره المندوب البريطاني في المجلس بمثابة قرار لا يتعدى كونه قراراً معنوياً، فليس من الواضح بعد أن تستطيع المملكة المتحدة وحتى الدول الأوروبية الأخرى، أن تتصدى لهجمة هذه الحركة الارهابية، التي وصفها كاميرون بأنها «استثنائية بخطورتها»، والتي سوف تزداد قوةً إلى أن تتمكن من استهداف شوارع بريطانيا، ومعها بواقع الحال شوارع العديد من عواصم ومدن القارة الأوروبية، بعد أن استطاعت كل هذه الحركات والمنظمات المتطرفة والإرهابية، أن تستمد قوة إعلامية ودعائية هائلة توازي وسائل إعلام عدة دول، وفي مقدمتها مواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت الآن تشكل إحدى الأدوات المهمة والنشطة في ترويج خطاباتها واستقطاب العديد من المناصرين إلى صفوفها من مختلف أنحاء العالم.
وعلى امتداد عقود من الزمن وخصوصاً بعد التدخل السوفياتي المباشر في أفغانستان في العام 1979 والذي دام قرابة عشر سنوات، دأبت دول الغرب بالتعاون مع الولايات المتحدة، على تشجيع ودعم الحركات الإسلامية المتطرفة، بالسلاح والذخيرة والمال، من أجل العمل على تنفيذ مخططاتها الهادفة إلى تفتيت دول العالم الفقيرة والنامية وأضعافها وتركيعها، ومضت غير آبهة بالمخاطر الرهيبة المستوحاة من أفكار وثقافات الإرهاب والتطرف، التي ظلت تحملها القوى الدينية ذات التوجهات الأصولية التقليدية، ليس في البلدان الإسلامية وحسب بل في سائر دول العالم وخصوصاً الأوروبية، التي تتهمها هذه القوى بدعم الأفكار والتوجهات المناهضة للدين والثقافة الإسلامية، وتعميق الإساءات البالغة للجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية.
ويحدث ذلك في وقت عرف فيه العالم برمته أن الغرب والولايات المتحدة هما اللذان شيدا أسس ومرتكزات هذه الحركات المتطرفة في العالم إبان سنوات حرب المواجهة مع الاتحاد السوفياتي السابق، وكذلك القوى الوطنية واليسارية والقومية المناهضة للاستعمار والامبريالية العالمية، في ظل ما كان يعرف بـ «الحرب الباردة»، وذلك من خلال تشجيعها ودعمها المكشوف بداية لمنظمة «الكونترا» (فصائل الموت) في أميركا اللاتينية، التي حاربت الأنظمة اليسارية التقدمية في كل من تشيلي ونيكاراغوا والسلفادور، وصرفت على أعمالها الإرهابية وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عشرات المليارات من الدولارات، ثم تشجيعها ودعمها المنقطع النظير للجماعات السلفية والتكفيرية.
وقد اعترف وزير الخارجية البريطانية الراحل روبن كوك في تصريح لصحيفة الـ «اوبزيرفر» البريطانية في أواخر يونيو/ حزيران 1997 أن الغرب ليست لديه مبادىء في الخارج، وأنه كان يدعم بعض الحركات المتطرفة و يساعد الأنظمة الدكتاتورية في حروبها ضد القوى الوطنية والإسلامية المناهضة لها من خلال تصدير الأسلحة والمعدات. ومؤخراً اعترفت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون في كتابها «خيارات صعبة»، أن الولايات المتحدة هي التي قامت بتأسيس ما يطلق عليه «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» بهدف تقسيم منطقة الشرق الأوسط إلى دويلات صغيرة وضعيفة. وأضافت، أنه تم الاتفاق على إعلان قيام هذه الدولة في يوم 5 يوليو/ تموز 2014، وكنا ننتظر صدور هذا الإعلان لكي نعترف به نحن وأوروبا بها فوراً، مشيرةً إلى أنها قد زارت 112 دولة في العالم وتم الاتفاق مع بعض أصدقاء الولايات المتحدة وأوروبا على الاعتراف «بالدولة الإسلامية» حال إعلانها فوراً، ولكن فجأةً تحطم كل شيء.
وبدلاً من أن يواجه الغرب والولايات المتحدة قضايا التطرف والإرهاب التي تمارسها الحركات الإسلامية، التي ظلت تقلق مضاجع الناس في كل مكان في العالم، تعمدت عدم الاكتراث بالنتائج الكارثية المهولة، التي تسببت بها بحق الأبرياء من الناس، تحت ذريعة مواجهة ما كانت تصفه بـ «المد الشيوعي» الرهيب الذي يكاد أن يغزو الكرة الأرضية في ذلك الوقت.
ومن جهتها استغلت الحركات المتطرفة والإرهابية الداعية إلى الجهاد ضد الأفكار «الشيوعية والملحدة» هذه الفرصة المتاحة لتعميق فكر الصحوة الإسلامية والأهداف الحقيقية لنشرها في مشاهد دموية حدثت في أفغانستان وغيرها من دول العالم، التي تعتنق غالبية شعوبها معتقدات وديانات أخرى.
الجميع كان يراهن على استمرار كل هذه الحركات كأداة طيعة في أحضان القوى التي تشجّعها وتدعمها بالمال والسلاح، لأنها تكون دائماً بحاجةٍ إلى هذا الدعم الهائل، الذي يغذّي طموحاتها المعنوية والمادية ويطور مشاريعها الاستراتيجية المنشودة، ولكن ما لم يحسبوا حسابه جيداً هو ذلك التحوّل السريع والخاطف من البقاء تحت حماية «الصليبيين الكفار»، إلى مقارعتهم ومواجهتهم في عقر دارهم، وهذا هو بالضبط ما حصل في أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، حيث دمّر تنظيم القاعدة الإرهابي بالطائرات المختطفة، برجي مركز التجارة الدولية ومقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون). وكذلك التفجيرات المرعبة والدامية، التي دمّرت أنفاق القطارات في كل من بريطانيا وأسبانيا. وقد ذكرت صحيفة «النهار» الجزائرية في عدد الثلثاء (19 أغسطس 2014) أن أفراد الدرك الوطني تمكنوا من اعتقال حوالي 200 شخص ضمن شبكة إرهابية من جنسيات سورية وجماعات «تنظيم داعش» الإرهابي كانوا قد دخلوا الأراضي الجزائرية في طريق عبورهم إلى الأراضي الليبية، ومن ثم هدف الوصول إلى عددٍ من عواصم الدول الأوروبية، للقيام بتنفيذ عمليات إرهابية وجلب مبالغ مالية لتمويل عملياتهم، حيث انقلب السحر على الساحر، وحيث ظل الغرب والولايات المتحدة اللذين احتضنا هذه الحركات وتسترا على تجاوزاتها وأفعالها الإجرامية والإرهابية في العراق وسورية وغيرهما، ليدفعا الثمن غالياً ويتجرعا طبخة السم التي أعداها بعناية فائقة لكي يغتالوا بها القوى والتيارات والأنظمة السياسية المناهضة للإمبريالية والتبعية الأجنبية.