القارة الأوروبية وتصاعد عامل الخوف من الإرهاب
يعتزم حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي أخذ على عاتقه خلال السنوات الأخيرة مكافحة مختلف قضايا الإرهاب والتطرف على المستويين الوطني والدولي، القيام بخطوات جريئة لمراقبة الأمن والاستقرار في أوروبا، بعد تصاعد التهديدات الإرهابية للعديد من عواصم القارة، من قبل التنظيمات المتشددة والإرهابية المناهضة للغرب.
ففي اجتماع وزراء دفاع دول الناتو، الذي عقد في 5 فبراير/ شباط 2015 في العاصمة البلجيكية بروكسل، شدّد الوزراء على ضرورة حدوث تغييرات ضرورية وجوهرية في مختلف المسائل الأمنية، التي من شأنها أن تردع كافة التحديات المباشرة وغير المباشرة، التي تواجه الدول الأوروبية، سواء من قبل عناصر التنظيمات المسلحة الإرهابية، أو من جانب الاتحاد الروسي، الذي يتهمه الغرب بتغذية النزاعات المسلحة في شرق أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم إليه، وانتهاك القوانين الدولية، وذلك برفع مستويات حالة التأهب القصوى وزيادة عدد القوات المشتركة من قرابة 13 ألف جندي في المرحلة السابقة، إلى أكثر من 30 ألف جندي في الفترة الحالية، ومن ضمنها صفوف القوات الخاصة والطليعية، التي سوف يُعهد لها القيام بمهام التأهب القصوى خلال 48 ساعة في حال نشوب تهديدات مباغتة وطارئة. وهذه القوات سوف تبدأ نشاطها مع بداية العام 2016، وهي مكوّنة من حوالي خمسة آلاف جندي إضافي، لحماية أسوار القارة الأوروبية، من أسوأ أشكال الإرهاب المفرطة المحتمل حدوثها في ظل كثرة الوعيد والتهديدات.
ورداً على كل هذه المخاوف والتهديدات، بدأت قيادة الحلف ببحث استراتيجية جديدة للأمن، وسوف ينتشر في خلال الفترة القادمة عشرات الآلاف من الجنود للمناورات العسكرية المشتركة، التي يعتزم الحلف إجراءها في النصف الثاني من العام 2015، والتي تشمل عملياتها كلاً من أسبانيا وإيطاليا والبرتغال، كوسيلة تخويف في وجه المنظمات الإرهابية. كما أنه سوف تنشر «قوات تدخل سريع للحوادث الطارئة، و6 مراكز للقيادة والسيطرة في دول البلطيق الثلاث (لتوانيا ولاتفيا واستونيا)، وبولندا ورومانيا وبلغاريا، تشارك فيها الجيوش الوطنية وقوات الحلف، لمواجهة التحديات من كافة الاتجاهات» حسبما أعلن بيان القيادة العامة للحلف.
وقد حرص وزراء دفاع حلف الناتو على التركيز في المسائل الضرورية والملحة في مواجهة كل هذه التحديات، والتخفيف من حدة «عامل الخوف» الذي لايزال ينتاب كافة شعوب أوروبا في الوقت الراهن وعلى امتداد السنوات المقبلة، من تصاعد موجة التهديدات الإرهابية على صعيد دول القارة، وتنفيذ خطة العمل الخاصة بجهوزية قوات الحلف، التي تمت الموافقة عليها في قمة ويلز في شهر سبتمبر/ أيلول 2014 والتي تضمنت استعداد تلك القوات للمقاومة المسلحة، ومواجهة التهديدات الأمنية الجديدة في شرق أوكرانيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وفي هذا السياق أصدر وزراء دفاع الناتو بياناً أكّدوا فيه أن مهمة القوة الأمنية الجديدة هي «الردع المباشر والحاسم في حالة التحديات الكبيرة، التي يمكن أن تواجه كافة الدول الأوروبية».
ومن جانبه أعلن الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ «أن المطلوب من الحلف في هذا الوقت بالذات، أن يقدم على أوسع تعزيز لإمكاناته العسكرية، منذ انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي والولايات المتحدة والغرب»، في مطلع سنوات التسعينيات من القرن الماضي.
وعلى الرغم من كافة التصريحات المطمئنة والمريحة، التي يفرط في تكرارها كبار القادة العسكريين في حلف الناتو، بخصوص محاولات ردع الإرهاب ومخاوفه التدميرية، سواءً في محيط القارة الأوروبية أو في مناطق أخرى بعيدة حول العالم، فإن معظم الشعوب الأوروبية، تميل إلى التشكيك في قدرة الحلف على توجيه ضربات موجعة وقاضية لجميع التنظيمات الإرهابية، التي أخذ بعضها يتغلغل بقوة في أحشاء المجتمعات الغربية، نتيجة السياسات المتساهلة والرخوة، التي مورست من قبل بعض حكومات الغرب ضد التشدد والتطرف الديني والعقائدي على مستوى ترابها الوطني، تحت ذريعة تنفيذ التزاماتها الوطنية والدولية المعنية باحترام مبادئ الحريات الديمقراطية والثقافية والعقائدية والفكرية وحقوق الإنسان.
وبحسب معظم المراقبين، فإن إذعان بعض الحكومات الغربية لتهديدات المتطرفين والإرهابيين، وتهاون البعض الآخر معهم في مواجهة العديد من الأنظمة السياسية الاستبدادية والدكتاتورية حول العالم، قد أدى إلى أن تتبنى التنظيمات المتشددة عمليات إرهابية ممنهجة وعنيفة، على غرار ما حدث في سلسلة التفجيرات الإرهابية التي استهدفت محطة قطارات مدريد في 11 مارس/ آذار 2004، وكذلك حزمة العمليات الانتحارية التي حدثت في «مترو الانفاق» في العاصمة البريطانية لندن في 7 يونيو/ حزيران 2005، ولاحقاً وقوع المجزرة الرهيبة ضد صحيفة «شارلي إيبدو» الباريسية الساخرة، التي اتسمت مشاهدها بصورة أكثر جسامة ووحشية، في عصر الحريات الديمقراطية والصحافة والفكر وحقوق الإنسان.
وتأمل كافة الشعوب الأوروبية، التي طالت مجتمعاتها، تحديات وتهديدات القوى المتطرفة والإرهابية، أن يزيل حلف شمال الأطلسي عن كواهلها «عامل الخوف» من مختلف مظاهر التطرف والإرهاب، المتربصة بأوضاعها الإجتماعية والاقتصادية والأمنية؛ وأن تتحقق كل طموحاتها وتطلعاتها المنشودة، نحو فترة زمنية طويلة الأمد، من السلام والهدوء والاستقرار، قبل موعد انعقاد مؤتمر الحلف القادم في العاصمة البولندية وارسو في العام 2016، والذي سوف يدرس بتمحيص دقيق كيفية معالجة الأزمات والقضايا المزمنة العسكرية والأمنية، والتصدي الفعلي والحازم لمكافحة مختلف مظاهر التطرف والإرهاب، التي ما برحت تقلق مضاجع الشعوب والحكومات في دول القارة الأوربية وحول العالم.